الصفحات

27 يوليو 2012

قراءة شعرية في مجموعة مقتطعات الرنين - محمد خضر (جريدة الوطن)


اذا كان الشعر مفهوم مسبق لدى المتلقي وآلية لها صورة محددة ومرتكزة ومستقرة في الذهنية لم يستطع سوى القليل تجاوزها وتحريكها ولا المساس بقداستها , الموضوعية والفنية تارة والموسيقية المعتادة تارة اخرى , اذا كان الشعر عملية ولعبة لغوية متوقعه ومجموعه من السياقات الفنية المحكوم عليها سلفا في نظرة عامة من المتلقي , فذلك كله استطاع شريف بقنة تجاوزه في مجموعه ( مقتطفات الرنين ) الشعرية 2004 ..شريف بقنة شاعر سعودي أصدر مجموعته بالكثير من لغة التجاوز على مستويات كثيرة لغوية وفكرية ومضمونية بشكل ملفت ومستفز للقاريء العادي وللمثقف على حد سواء ..
لأن الشعر هنا هو حالة فردية خاصة جدا وغير مشاعه غير قابلة للخطابي ولا للتقريري ولا للعاطفي باعتباره ظل هاجسا مسيطرا على تجارب كثيرة , ليس للبيئة بمفهومها الذي يروج له النقاد أثر كبير فيما قدمه شريف بل للبيئة الشخصية جدا , والعابرة منه بامكنة سرية وغير قابلة الا لنوافذ انقرائية مفتوحه , بل شريف يدخلنا في عوالم غرائبية وعملية بما يشبه الرهان على احداث منطقة جديدة وربما هي جديدة على الشعرية العربية ..نتذكر كتابات غوتفريد بن الالماني عن غرفة التمريض والتشريح واسماء الامراض واجزاء الجسد الداخليه والخارجية , لكانه يكتب تقارير طبية وهذا مااعنيه بأن الشعر حاله فردية جدا 
وخاصة لدى شريف , الذي يكتب متجردا بشكل أو آخر من كل انماط وتبعات القصيدة العربية 
وبنائيتها , في المجموعه تفكيك وتطبيق مدهش لشعرية ننتظرها , شعرية ترسم لنا صورة جديدة وقابلة 
للحراك والتساؤل .. انه هدم كل شيء عن اي شيء .. نظري متعلق بالشعر والكتابة في مساحه بيضاء 
بنية الكتابة : 
كأول النزيف الطاهر .. التعقيم المقنع 
ينفث الكرب ويزأر ليخيف العفريت المسكون ... 
صحيح أن التداخلات والتفاصيل كانت متشابكة واجواء المجموعه جاءت بغموض لكنه غموض ننتظره ليكتشف لنا كل مرة عن معنى جديد , وبرغم تأثير لوتريامون الواضح على المجموعه وسأم باريس 
الاأن بصمة شريف كانت متميزة لتجعلنا قادرين على الامساك به وتعريفه ايضا . 
أيضا مااسميه النص العلمي الذي يقوم على اسس تناظرية وتقابلية وكأن النص هو ملخص لدراسة ما 
وتفاعل سيكلوجي ما , لم يوضع اعتباطا بكل عباراته نجد ذلك حين يقول في احد نصوصه : 
" غوايه الملساء " عن مايشبه عقدة اوديب مقلوبة وبجراة واضحة وهذه سمه تضاف له :
عذوبةُ الرّنينِ تجعلُه يفخرُ في البدايةِ ، 
"مكاقأةُ التصوّف" .. 
فجأةً ، إذ بهِ يلقّطُ أشلاءً من جسدهِ من فوقِ المساحةِ في كيسِ شعير ٍ يحملهُ على كتفهِ المُخلّع ..
و يهرولُ فَزعاً من ضُروسِ الزعيق ..


لمْ يجدْ غيرَ أنْ يلوكَ جسدَهُ لاإرادياًّ فيتشهّدُ كلّ مرّةٍ ، 
غيرَ أنْ لا يفكّرَ بغيرَ هذا و كأنّه طعامُ البشَر ..

يعالج الشائك ولكن بمشرط حاد , فالمجموعة مليئة بعبارات مثل : 
حتى النخاع تشرذمت على السام 
والاكثر وقاحه قراءتك لجملي الوقحة 

الصور السريالية لدى شريف في ديوانه " مقتطفات الرنين " هي صورة يتكيء عليها بمخيلة جديدة لاستحداث الفعل الشعري داخل اللغة كعامل خارجي من جهه وداخل المعنى باعتباره مكملا للغة 
صحيح اننا نجد ذلك في تجارب كثيرة سجلت حضورها في وقت متأخر الا انها لدى شريف هي صورة فنان قادر على تهدئة مضامينه الساخنة بتلك اللقطات السريالية الملونة هنا مثلا : 
" فتستحيل تفاحة قلبي حصاة مشوهة 
في رواق مهمل في مصحه الفراغ " 
يكتب شريف الشعر لانه بمثابه الخلاص البشري الشعر باعتباره عملية استحداث ونطق بالمسكوت وباعتباره أفقا لايحد بسياج التعريفات او النظرية يفضح شيئا من الواقع وينزع الاقنعه ..
ومما يؤكد الشروع في ذهنية الشعرية الخاصة ذلك المعجم الخاص الذي تكون فيه اللغة اوسع مما قد يكون شعري من عدمه , فثمة عبارات ومفردات مثل : الاحشاء , التشريح , الحبوب , طحلب , 
تقطير , الابط , قيح , اسرة بيضاء , الخ واجواء مصحه كبرى لفهم الانسان .. 
بعض النصوص كتبت بماقد اسميه الخلاص المجرد من حالة ملحه على شريف وهي الاغلب مما قد يختص بتلك الاجواء الطبية .. هذا كون شريف يعمل طبيبا ! 
وثمة نصوص نيتسم كثيرا ونحن نقرأها , لاننا بصدد قراءة نقاشية جدلية فلسفية وشيء يشبه حديث النفس والاخر وربما مشاجرة داخل النص كما في نص " وسواس " حيث يقول في نهايته : 
هلْ قبّلته الكائِناتُ و فاز ..!
في يومِ المحْكمة ..!
هل يدخُل " خليل جبران " و " طاغور " النّار !.
وأيضا سيطرة المضامين الميتافزيقية ومايهتم بالمرجعي أبدا كان هاجس شريف وكأنه يشكو من جهل ما لينتقد داخل نصه ويصرخ ويجادل ويرفض ويتمرد فكلمات مثل : 
الخطيئة , القدر , اللعنة , الملائكة , المعصية , 
تمنحنا دلالة على افكار الشاعر عن الوجود والمصير والحياة بنظرة تأملية وبلغة كاشفة ومرنة . 
شعرية شريف متجاوزة ليس لانها تقدم لنا جديدا ومفاجئا ومنفتحا ومغامرا فقط , بل ايضا لانها غير خاضعه لاي مقياس جاهز او مسلمات زمانية او مكانية , انها متحركة ابدا , وتشبه في مسارها الدائري الممتع حالات الانسان القريبة منه , تلامسه , تكاشفه , تعريه , دون الشعور بالخجل او دون اختيار عبارات مسبقة , لذا فهي تفجعنا حينا وتخجلنا حينا وربما أخذنا منها موقفا محايدا وصامتا حينا آخر , لان كل شيء قابل للتحريك بنصوص حيوية وقادرة على الحياة اكثر .. 
ساعود مرة اخرى لاقول أن شريف يستهدف في كتابته تلك الشعر كنوع كتابي لايزال ينبض كمنطقة شاسعه لم تكتشف بعد , انه يعبر بنا الى مناخات وطقوس ناصعه وذكية ورافضة للمكرور والنمطي والسائد والمشاع , الشعر الذي يلامسنا كثيرا ويدرس ملامحنا بتفاعلاتها الطبيعية , حيث نقرأ جديدا حتى على صعيد قصيدة النثر او النص الشعري فكرة ومضمونا ولغة .. وربما اخراجا في اكثر النصوص 
وكما ذكرت انه الهدم والكتابة من درجه الصفر (بارت ) كما يعبر رولان في شرطه النقدي الهدم وجدلية البناء واللغة حيث هي فعل خاص والشعر حيث هو باب مفتوح لاشأن لاحد أن يقرر مدى شاعريته بمجرد قانون ونظرية وتلاعبات بلاغية 
هكذا كانت مقتطفات الرنين شروع في الجمالية والقبحية بمعناها الجمالي ومفاجأة العقلية بشيء غير موجود في الذاكرة سلفا ولايمكن التكهن به او بما تحتويه , بعيدا عن البلاغي والمقنن لكنه قريب من المدروس جيدا والحيوي 
انه كما يعبر شريف : 
"على هذا الاهتزاز الوتدي كابرة 
يكون فجور اومثالية 
يريد اللباقة الرصينة 
يمشي على الشعرة الحمراء الرقيقه المشهورة 
فيقسو على حياته ولاينكر الجميل "
* شاعر سعودي
www.alwatan.com.sa/daily/2006-10-07/culture/culture12.html