الصفحات

27 يوليو 2012

دارسة أدبية لمجموعة مدن العزلة لشريف بقنه - د. عدنان الظاهر (مجلة الجوبة)

 دارسة أدبية للمجموعة الشعرية (مدن العزلة) شريف بقنه - د. عدنان الظاهر ألمانيا (نشرت في مجلة الجوبة - العدد 20) 
شريف بقنة الشهراني / الطبعة الأولى 2007 . الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت )) .


بداية لكي أكون صادقاً معه ومع نفسي لا بدَّ من أن أقولَ إن َّ الإنسان النظيف الثائر في شريف إحتفظ بشئ من روحه الثائرة وبآثار من حقده ونقمته على عالم الرأسمالية الظالم ، على عالم البرجوازية وإنْ جاءت في موضع واحد في قصيدة واحدة إسمها ( أناشيد موت منفرد ) . أنقل ثورة شريف بألفاظه من الصفحة 62 :
[[ البرجوازيون ... رعاة البقر ... طغاة الأرض ... هكذا مزاج عبثي ...يُنعشني اليوم ، هؤلاء البشر ! أحتاج إلى غضب عارم للبقاء بينهم ، أنْ تتعلم َ من أين تؤكل الكتف ! وعلى الجوعى نقمة السماء ]] .
لا يحتاج مثل هذا الكلام إلى شروح وإضافات . الكل يعرف مَن هم البرجوازيون رعاة البقر طغاة الأرض ! إنهم الأمريكان ! قواعدهم في الظهران ولهم حصة الأسد من نفوط العربية السعودية . كيف يتعايش معهم طبيب شريف صفحته ناصعة البياض أرضه محتلة ونفطه مباح للغرباء ؟ يجد نفسه محاصراً ما بين فكي كماشة من فولاذ قاس ٍ : البقاء معهم على مضض ، وأن يتعلم المجاملة والمداهنة لكي تمشي أموره معهم بسلام فإنهم الأقوياء المتحكمون بأخطر مفاصل وطنه . إنها هنا صرخة قوية واحدة واضحة في مجمل الكتاب ، تكفي أم لا تكفي ؟ تكفي . تعلّم شريف من المتنبي فلسفة التكيّف والتعايش مع الظالم ومَن لا يستحق المعاشرة أو الصداقة :

ومن نَكد الدنيا على الحر ِّ أنْ يرى
عدوا ً له ما مِن ْ صداقتهِ بد ُّ 

ما قال شريف المتيّم في رشا ؟
هل أغامر بالجزم أنَّ رشا هي أول قصة حب في حياة شريف بقنة الشهراني ؟ لو كانت أخرى في حياته لأفصح َ أو لتسرّب َ خبرها جهاراً أو رمزاً وتورية ً أو حتى بزلة لسان ... وما في القلوب نجده على اللسان أو يظهر في الأحلام . هل ننسى ما قال شاعر قبل الإسلام :

ومهما تكنْ عند إمرئ ٍ من خليقة ٍ
وإنْ خالها تُخفى على الناس ِ تُعلم ِ 

رشا هي حب شريف الأول ومغامرته الأولى خارج حدود مملكته المترامية الأطراف . لا نعرف هل كتب فيها وعنها بعد لقائه بها أشعاراً أخرى ؟ أكيد ستكون رقيقة هفهافة غزلية وجدانية تميل لشئ من التصوف والروحانية كشأن أغلب أشعار الهوى بين الشباب وخاصة ً إذا ما كانت تلك هي تجربتهم الأولى في عالم الرومانس . وأكيد سينأى أكثر بنفسه عن عالم التمرد والسياسة وسيميل بقوة إلى توظيف ألفاظ ٍ أكثر رقة ً وأعذب بيانا ً وأبعد عن الألفاظ القوية المكشوفة كتلك التي قرأناها في كتابه الأول والتي حددتها وأشرتُ إليها مفردة ً مفردة . 
إهداء شريف قصيدة ( إنتحارات الماء ) يعزز الكثير من تكهناتي وإستنتاجاتي فلقد قال [[ إلى رشا ... فقط ]] . إذا ً فهي حبه الأول حتى اللحظة ولا نعرف طبيعة تقلبات الإنسان في قلبه أو مع قلبه فالقلب قلَّب كما يقول علماء اللغة ، مشتق من عملية التقلب . إلى رشا فقط ... تفرّد بها وعزلها عن باقي نساء العالمين . بعد مقامة التفرد هذه مباشرة ً إستعار الشاعر قولاً للشاعر الفيلسوف ( طاغور ) قال فيه :
[[ كلمة واحدة تبقى لي في صمتك َ أيها العالم حين أموت : هي أنني قد أحببتُ ]] . كلمة جميلة تتطابق تماماً مع حالة شريف العاشق وتستجيب لما في داخله من لواعج . كان صادقاً مع نفسه وكان جريئاً إذ فتح صدره كطبيب جرّاح ليكشف لنا عما فيه ... ها أنذا يا عالم ! ليس لديَّ ما أُخفيه عنكم وليس في َّ ما أخشاه وأتجنبه !!
قصيدة إنتحارات الماء قصيدة طويلة من 17 صفحة ( 79 ـ 96 ) و 22 مقطعاً سأختار أجمل َ ما وجدتُ في هذه المقاطع وأثبّتها مشيرا ً إلى رقم تسلسل المقطع دون ذكر رقم الصفحة ... موافق شريف ؟ لستَ وحدكَ في الدنيا تشريحا ً و جراحة ً ! سأحافظ على التنقيط والفوارز والتشكيلات الأخرى كما كتبها الشاعر دونما تدخل إلا بعض التصويبات النحوية أو اللغوية هنا وهناك .
المقطع رقم 3
[[ ضممتها ...،
فتهدّلَ في روحي ماؤها ...
أشف ُّ على مهل ٍ في عروق ِ عُنقها ...
أتهادى سلسبيل ٌ فَتَر لا يصحو ...
صعداءٌ آسنة ٌ حتى الثمل ...
أمتشق ُ حبوراً سماوياً ...
من أين لي إدراكٌ مكين ٌ وقانت
خيمة طمأنينة لمُنية حلال ،
إنها ستلامسُ صدري ...
ذات َ مساء ]] .
في هذا المقطع كلمات غير مفهومة أو لا وجودَ لها في قاموس اللغة العربية أو إنها نتيجة أخطاء مطبعية . ماذا يفهم القارئ من قول شريف [[ أتهادى سلسبيل ٌ فَتر لا يصحو ؟ و [[ صعداء ُ آسنة ٌ حتى الثمل ؟ ]] . لا أطلب من الشاعر أن يوضِّح َ لكني أطالب شعره في أن يوحي لي ما يوحي وفي أن يثير في َّ عناصر الدهشة ويضع أمامي صوراً تشكيلية زاهية الألوان ويصعق حواسي بشئ جديد من الإبداع . إنه في مقام يتعبد فيه للحب فهل خدم المثالان السابقان طقوس الحب والتعبد سواء بالمفهوم الجسدي المادي أو الروحاني الصوفي ؟ كلا ، لا أجد لهما طعماً مستساغاً لا في فمي ولا في خيالي ولا في متطلبات الإبداع . [[ ضممتها فتهدّل في روحي ماؤها ]] ثم [[ إنها ستلامس صدري ذات مساء ]] . هنا نجد إفتتاحية القصيدة وهنا نجد الختام . إفتتاحية شعرية لكنَّ الخاتمة لا من شعر فيها . تقرير مسطّح عار ٍ . 
في المقطع الثاني نجد بُغيتنا فنرتاح كثيراً ونحمد الشاعرَ كثيراً ونطالبه بالمزيد . هنا لا يفصح العاشق عن تفاصيل لقائه بمحبوبته بتعبيرات مباشرة مستقيمة الخطوط ظاهرة المغازي وإنما يسلك الدروب السوريالية والرمزية ويغوص إلى أعماق عقله الباطن فيقلب ويتقلب ولا يتسرب منه ومن عقله الواعي إلا إشارات خاطفة وإنتقالات رشيقة وإيماءات ألوانها خافتة الضوء وقد أجاد إذ عبّر عن ذلك كله بقوله [[ أُراني أتسرّب بهدوءٍ
بين شقوق البلاط ]] . ليس هو مَن يتسرب بين الشقوق حسب ُ ، إنما وكل المدفون عميقا ً فيه من مشاعر الحب وهوس التوله وضربة العشق 
" النووية " . التسرب والإنسياب غير الواعي مع قدر قليل من الضبط والمراقبة ونوبة من الحراسة المخففة على طوفان فكره وجيشان غموض ما يريد التعبير عنه . الصراع المرير بين ما يريد أن يقول وما لا يريد أن يقول . بين شعوره الذي يعرف وعواطفه التي يجهل كنهها أو يخشى ترجمتها إلى ألفاظ يكتبها ويقرأها الناس . صراع مرير يشق طريقه من خلال إلتباسات مختلطة ما بين الغيب والحضور ، الباطن والظاهر ، المباح والمحظور ، الجائز والمحرّم . أعيد كتابة هذا المقطع متصلاً لامجزءا ً كما ورد في الكتاب : 

المقطع رقم 2

[[ ضجيج ٌ وفوضى يعجُّ بهما المكان . كنتُ بينهم ذات صبيحة ٍ صائمة ٍ . لكأنَّ الحياةَ كانت كلها تكتفي بأرقها في تلك الغرفة الملغّمة . وما أن تحلينَ بردا ً وسلاماً ... أُراني أتسربُ بهدوء ٍ بين شقوق البلاط ... نتماس على حواف ماء ٍ عطشى . نتلاسعُ عن شفاهٍ تُتوّجُ ... شفاهُ متعَبة ٌ تلفظ ُ إنتقامات أسفار ٍ عِجاف ... قُبلتها أضغاث ُ إلتباسات ٍ ... تجتاح ُ أوصالي رغبة ٌ جامحة ٌ لتدمير الطبيعة ]] . مقطع ناجح كل ما فيه ينضح توتراً يفهم قارئه طبيعة الجو السائد فيه بإشارات لا تتكلم من جنس ( البنتوميما ). يحس بهذه الأجواء ولا يعرف كيف يفسرها بل ، إنه أصلاً ليس بحاجة إلى تفسيرات . يحس بمجسّات الكثير من الحواس المجهولة الأصل فيستوعب ما يريد هو إستيعابه لا ما يريد الشاعر أن يمليه عليه . لا يتطابق القارئ والشاعر بالضرورة . الأفضل أن لا يتطابقا وأن يظلا مختلفين ففي الإختلاف جمال وسحر وخلق وقوة . نعم ، الجو ، الطقس ، الإيحاء والشعراء أنبياء والنبوّة إيحاء ووحي وموحى إليه . قلتُ وأظلُّ أقول إنَّ السوريالية ليست قانوناً واحداً صَمداً أوحداً مقننا ً ، إنما هي وسائل وآليات شتى منوَّعة متفاونة تختلف من شاعر إلى آخر وتتنوع وتثرى بتنوع الشعراء وتعتمد على ثقافة الشاعر ودرجة وعيه الشعري ومكنته اللغوية وعمق معرفته بنفسه وثقته بوسائله الخاصة للتعبير عما يجول في عوالمه العميقة الغور ثم قدرته على ترجمة ما في هذه العوالم إلى أشياء ملموسة لكنها عديمة الملمس ومرئية لكنها لا تُرى وناطقة لكنها لا تتكلم وإذا تكلمت فبلغتها الخاصة التي يتجاوب القارئ معها ويتأثر بها لكنه لا يفهمها ولا يفهم ما يريد الشاعر منها . لكل شاعر سورياليته الخاصة به كآلية للتعبيرالشعري ولغة غامضة لترجمة الأكثر غموضاً وجهاز لتحويل الصوت إلى ضوء يراه القارئ لكنه يجهل ما وراءه من أصوات . لشريف بقنة سورياليته الخاصة كشأن باقي الشعراء . هي بصمات أصابع يديه التي لا تتكرر وليس لها من شبيه أو نظير . هي جيناته الخاصة به . 
تعليق على تعبير (( صبيحة صائمة )) /
صام النهارُ إذا إنتصف وبلغ سمت الظهيرة ، فصبيحة صائمة تعني أنَّ الصباح تطور إلى وقت الظهر وهو يسمى زمن الزوال . وفي التقويم الأوربي تمييز ما بين الوقتين فقبل الظهر أي قبل الساعة الثانية عشرة يسمونه
AM =Antimeridian
وبعد الثانية عشرة يسمونه 
PM = postmeridian
لست متأكداً هل يعرف الشاعر شريف بقنة معنى صيام النهار أم لا . على أية حال ، ليس للأمر من أهمية إستثنائية سوى جهدي للتمييز بين أن يكون الشاعر صائم َ صباحه بالمفهوم الديني أو إنه معني بتحولات الزمن ومواكبة الحركة الكونية للزمان بمفهوميها الفيزيائي والفلسفي .

المقطع رقم 5 
[[ جُبلت ِ من ضلعي ،
يا أناي ...
أحبّك ِ قلَقا ً وجودياً يحققني كل َّ مرّة ...
أحبّك ِ وجدا ً أصلياً
وأتصوّفُ بكِ 
في هذا التوفر الأبدي للوقتِ والفراغ...
لا أجدُ عملاً أفضل َ من بقائي جالساً
أتهذب ُّ بوجهَك ِ الجميل ِ وإستحضرهُ بهجوع ... ]]

تتجلى هنا ثانية ً شعرية شريف الشهراني وتفرّد أساليب نهجه السوريالي التي لولا هذا التفرد لما كان الشاعر شاعراً أبداً ولن يكون ... شريف أو غير شريف . شاعر التفعيلة لا يمكن أن يكون سوريالياً أبداً لأنه مقيد بقالب وصفيحة ( تنكة ) التفعيلة المعدنية المحددة المساحة والزوايا والأضلاع ، التفعيلة سجن ، سجن فسيح وليس زنزانة سجن إنفرادي طولها متر وعرضها نصف متر ٍ . ونزيلها ليس محكوماً بالشنق حتى الموت ، فيها فتحة دائرية صغيرة للتنفس وإمكانية متواضعة لرؤية الشمس والسماء . أقرر هذا الكلام وأتحمل عتاب أصدقائي وهم كُثر ٌ من شعراء التفعيلة الذين كانوا ثوريين جداً يوم تمردوا وأعلنوا العصيان على بحور الفراهيدي فهدموها تفعيلة ً فتفعيلة ً وفتحوا أسوارها العالية وصفق لهم شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث أنتصرت هذه المدرسة بشكل ساحق وإنْ سمحت للشعر الموزون المقفى بهامش ضيق محدود للتنفس ثم للتأريخ والعرض في المتاحف من باب تقديس الذكريات الجميلة والمحافظة على الموروث !!
أعود من سياحتي لشريف الشهراني لأقرأ ما قال في سطور هذا المقطع وما تسرب بين السطور وما فاته أن يقوله وما خشي َّ أنْ يقوله . من نافلة القول أن أذكر أنَّ الشاعرَ يُحيلنا لما قرأنا في تراثنا وفي غيره من قصة خلق حواء أمنا الأولى أو جدتنا من أحد أضلاع جدنا آدم [[ جُبلتِ من ضلعي ]] ... هي إذا ً حواء زوج آدم خرجت منه لكأنه هو مَن خلقها فهو ربها الذي جبلَ وسوّى . شريف يريد أو يتمنى أن تكون ( رشا ) زوجه وبعضاً منه وهذا شئ جميل ونبيل منه في أنه لا يحب مَن يحب ثم يتركها ويغادر إلى بلده قائلاً لها مع السلامة ، إلى لقاء آخر في الصيف القادم . وهذا ما فعله الكثير من أصدقائي وغير أصدقائي أيام الدراسة شرقاً وغرباً . [[ أحبّك قلقاً وجودياً ]] ... شاع كثيراً في زماننا تعبير القلق الوجودي وفضلُ شيوعه وإنتشاره يعود كما هو معلوم لجان بول سارتر وغيره من فلاسفة الوجودية . القلق الوجودي ما هو إلا قلق الإنسان نفسه مكبّراً مئات أو ربما آلاف المرّاتٍ مع الكثير من المبالغة وبعض النرجسية ومحاولة التخلص من مشاكلنا الخاصة بتعليقها على مشجب الزمان أو الكون والوجود أو ترحيلها لمكان آخر وزمان آخر للتخفيف من ثقل وطأتها على كواهلنا الضعيفة . إنه قلق الشاعر الغارق في عشق ( رشا ) حتى إلى ما فوق أذنيه ... قلقه عليها بعد الفراق وقلقه المشروع مخافة َ أن لا يلتقيا مرة ً ثانية . هي باقية في فرنسا البلد الجميل ، بلد الحريات والجمال بيدَ إنه سيكون في المملكة السعودية وشتان ما بين العالمين !! محنة ، محنة حقيقية يعايشها الشاعر الطبيب الشاب . ثلاثية القلق الوجودي + الوجد الأصلي + التصوف . ليس من باب العبث أن يجمع الشاعرُ عناصر هذا الثالوث وهو يستحضر طقوس علا قته برشا وجميل ذكرياته معها وكيف كانت البداية وتمحنه في التساؤل كيف ستكون النهاية . لكي يخفف َ الشاعرُ عن كاهله عبء فكرة الفراق وربما إستحالة اللقاء ثانية ً راح يدخل رأسه في دهاليز روحية لعله يجد فيها بلسماً وطبّا ًً لمعاناته الممضّة الموجعة . هذا سبيل معروف منذ القدم للهرب مما نواجه من مشاكل وإشكالات ، الهرب من خطر غير قاتل شاخص ٍ أمامنا واللجوء لخطر موت أكيد غير شاخص أمامنا أو لا نراه . هذا الكلام لشكسبير وليس لي ... تقريباً . التصوف ، التصوف هو الإنكفاء على الذات الواعية والإلتفاف على شبكة الحواس البشرية في مسعى ليس بريئا ً تماما ً لتعطيلها كما يعطل طيرانُ العدو شبكة رادارات عدوه . نعطل حواسنا للتخلص من الإحساس بالمعاناة . تخدير الجلد والعصب بالإفيون والترياك والحشيشة الصوفية . مصيبة العشاق كبيرة [[ يخشون من جزع ٍ للذتهم ـ أن لا تكونَ طويلةَ الأمدِ / للأخطل الصغير ]] . أجد مصداق ما سردتُ للتو من تكهنات وإستطرادات في السطور الأربعة الأخيرة من هذا المقطع الخامس :
[[ كنتُ أبحث ُ عن وعي ٍ ما ...
أتفحص ُّ أداة َ وعي ِّ ...
أُطمئن ُ سريرتي ...
... لكنني دائما ً ... أغووور ]] .
يبحث الشاعر الذي إلتجأ لعالم الروحانيات والتصوف عمّا فقد من وعي لكنه لا يجد ضالته فيشكك في وسائل بحثه عن وعيه لكي يريح ضميره ويبرئ ذمته أمام نفسه فتداهمه الصدمة القاسية : لا يجد شيئاً باقياً من وعيه فينزلق في أعماق التيه أكثر فأكثر ويظل يغور حتى بلوغ حدود العدم الوجودي . مما يلفت النظر الكيفية التي بها كتب الفعل ( أغور... أغووور ) ، الغور فالغور ثم الغور حتى عمق الأعماق . 
هل عرفنا لماذا ذهب الشاعر من الحب إلى التصوف ؟ هل في تصوفه عبادة مَن يُحب ؟ هل هو من قبيل عشق المتصوفة جماعة الحلاج للخالق ومحاولات الإندماج معه والحلول المتبادل فيه ؟ أقول نعم . حقق الشاعر ما يروم من نجاح . ربط ٌ محكم ومحاولة موفقة من حيث الفكر والمنحى والشعر . 
أنقل ُ أجزاء جيدة تخدم أغراض دراستي من المقطعين السادس والثامن :
[[ يا بعد عمري ...
بعد حزني ، بعد النهار ...
بعد النجوم العذارى الفارعات ...
بعد السماء التاسعة في لجّة النور
ترقص ُ قدماك ِ على سقف الجنّة
وتسيل ُ أنفال أفلاك ...

إيه ٍ رشّو ...
يا لهذا الكسل المُذهِل في جسدكِ ...
سَكَن ٌ يشبه ُ ثمل السماء قبل الغروب ...
عند الأفول .
وتنعسين ... ،
أي فضول ٍ يملأني لأعرف َ فقط ... ،
كيف تفكِّر ُ تلك العينان في هذه الدنيا ... ! ]] .

" يا بعد عمري " تعبير غارق بالعاطفية والإستعداد للتضحية بكل غالٍ ونفيس من أجل المعشوق . يقول العراقيون " يا بعد عيني " ... يا عزيز الروح يا بعد عيني ... التي تعني من بين ما تعني أني أفدي المخاطب بعيني أو أن عيني فداء ً له . وهذا تماما ً ما ذهب إليه الشاعر السعودي في قوله القريب من العراقي من حيث المغزى والمعنى . كذلك تقوله الأمهات للأبناء في العراق أو يقوله الواحد منا لعزيز عليه . " يا بعد عمري " ... تعبير يأخذ بمجامع القلوب لبساطته وبراءته وعفويته وما فيه من حرارة صادقة وإنفتاح صدر في مخاطبة المعشوق . لا يكتفي شريف بتقديمه عمره قرباناً لحبيبته رشا ، إنما يقرِّب لها أكثر من تقدمة وقربان وأضحية : يضيف لعمره حزنه فيها ومن أجلها ونهاره والنجوم والسماء التاسعة ـ أضاف سمائين أخريين للسموات السبع الطِباق التي يعرف المسلمون ـ هنا بلغ الأرب ، دنا من عتبة مرامه وهدفه النهائي الذي سعى إليه حثيثا ً متنقلاً متدرجا ً من الحزن الخاص به إلى التقويم الزماني ذي الإستقلالية الكونية حتى يدرك العالم الأعظم بنجومه وسماواته ـ وقد حددها بتسع لا أكثر ـ حتى يقف أمام فضاء كوني محصور ٍ بين السماء التاسعة وسقف الجنة ليضع ( رشا ) هناك بحيث أنها تطال بقدميها سقف هذه الجنة . كيف تضع قدميها على السقف بدل أن تضعهما على أرضية الجنة ؟ تلكم مبالغة كبيرة في تأليه الحبيبة . قدمها تشرِّف الجنة . لكنها وهي في هذا الوضع المقلوب نراها مثل خفاش حيث تتدلى الخفافيش من السقوف منتكسة الرؤوس . ليس في هذه الصورة الغريبة من بهجة أو مسرة للناظرين ... إلا إذا كان في قصد الشاعر أن يقول إنَّ الأوضاع هناك في الجنان مقلوبة ومدعاة للسخرية وكل ما فيها يدعو للضحك وإنها معكوس حياتنا الأرضية التي إعتدنا عليها منذ أن ْ إنفصل الإنسان عن جده القرد . الجنة هي اللوح الفوتوغرافي السالب لصورة الأرض أو صورة الأرض في مرآة الكون .
نشهد في السطور الأخرى من المقطع الثامن تعبيرات واضحة تدل على إنتقال الشاعر إلى ملكوت الليل وفي الليل يهجع الناس ويأوون إلى فراشهم. كلمات قليلة واضحة الدلالات مثل : الكسل + السَكن أو السكون + الثَمَل + الأفول + النعاس . الحبيبة في فراشها ، يحوم العاشق حول سريرها محاولاً معرفة [[ كيف تفكّر تلك العينان في هذه الدنيا ! ]] . النائم كذلك يفكر ويحلم والحلم تفكير والنائم يتكلم ويجهر في كلامه أحياناً . يفتتح الشاعر المقطع التاسع بقوله :
[[ وتنامين ...،
يا لهذا التناظر المُبدِع في جسدكِ الخادر ... ]] .
تمّت الصورة . في المقطع الثامن تمهيد لعالم النوم وفي مستهل المقطع التاسع نرى الحبيبة نائمة وجسدها مخدَّر . نوم الحبيبة يعني توق الشاعر إلى مشاركتها فراشها . هو لا يقول ذلك لكنه تحصيل حاصل وأمر لا يحتاج إلى مَن يقوله . الحر ُّ تكفيه الإشارة والإشارة هنا قوية . 

إلهي ليس للعشاق ِ ذنب ٌ
لأنك أنت تبلو العاشقينا

وتأمُرنا بغض ِّ الطرفِ عنه 
كأنك َ ما خلقتَ لنا عيونا

لا أعرف قائل هذا الشعر . لك الله يا شريف !! إصبرْ حتى حلول الصيف القادم ، صيف عام 2008 ... صحبك ما زالوا في إنتظارك وفي إنتظار ما تحمل لهم من هدايا .

المقطع 13 
في هذا المقطع يبلغ السهم المنطلق مداه الأقصى . يتوحد الشاعر العاشق مع المعشوق والمعشوق بشرٌ ، أنثى إسمها رشا ، رشو تدليلاً . يتوحد أو يتحد بها إتحادا ً سرمديا ً إفنائيا ً والفناء هو الموت . لكأنَّ ما قال الشاعر فيما سبق تمهيد ٌ وتوطئة لمضمون هذا المقطع . إنه يتدرج في خطوات مقننة محسوبة بدقة يعرف أواخرها كما يعرف أوائلها . ولا من عجب فالشاعر طبيب والطب علم والعلم تفكير وتخطيط وبرمجة ثم تنفيذ.
سأكتب المقطع مع إهمال الكثير من النقاط التي حرص الشاعر على وضعها في الكتاب ولا أرى للغالبية العظمى منها أية أهمية ، نقاط زائدة في نهاية السطور حتى لو كان السطر كلمة ً واحدةً لا غير . 
[[ يا بنتُ ...
إنني أحبك ِ غيبا ً أتقمصهُ
نُزُلا ً حميداً أحبكِ حتى رأيتُ روحي في روحكِ إنتحارات الماء 
أحبكِ ... توحّد ٌ ناجزٌ
توحّد ٌ سرمدي ٌّ
أحبكِ لدرجةِ أحسستُ فيها 
أنني أموتُ
خَدَر ٌ تسرّب َ من الجنةِ فأبادَ كلَّ حواسي
... كان َ مهرُها أوزّة ٌ من زجاج ]] .

مقطع جميل مفعم ٌ بالإيحاءات والصور الشعرية مرسومة بريشة وضربات أصابع الشاعر لا بأصابعَ غيره من البشر . طبعات أو طمغات أصابعه واضحة تدل عليه وترسم في اللوحة كل ما فيه هو . أبعد المحب نفسه قليلاً عن محبوبته إذ خاطبها بالقول [[ يا بنتُ ]] ... خاطبها باللفظ غير المُعرَّف ... يا بنتُ بدل يا أيتها البنتُ مثلا ً . أفسِّر الأمر بإحساس الشاعر أنَّ الفراق واقع ٌ لا مَحالة فليوطد العزم وليهيء النفس لتقبل المكروه الذي لا بد َّ واقع . وضع فضاء ً مكانيا ً بينه وبين رشا ، فسحة نفسية ـ مكانية خالية لكنها ليست من الفراغ على أية حال . بقعة محايدة قد يتدخل الزمن فيردم هوة المكان هذه فيلتئم الجمعان . للتصوف هنا حضور قوي جداً وهو إمتداد لما رأينا في مقاطعَ سابقة . يتكلم الشاعر هنا عن الغيب والنزول ( ربما بمعنى التنزيل ؟ ) . ذكر الروح والتوحد ، بل والتوحد السرمدي . ثم ذكر الموتَ فتذكّر الجنة حيث لا مست سقفها أقدامُ حبيبته في المقطع السادس . (( مات شهيداً من مات فداء ً للمحبوب / نزار قباني )) ، والجنة مأوى الشهداء !! 
في الكتاب إقتباسات كثيرة لا أحسب أنَّ أغلبها ضروري ٌّ لمادة الشعر فيه. سأعود لاحقاً لهذا الموضوع وربما سأعدد هذه الإقتباسات وأبين مواضعها في صفحات الكتاب . أقول هذا الكلام لأنَّ جُل َّ المقطع الرابع عشر كلام مقتبس من الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكة ، وجد الشاعر فيه ما يتطابق مع أوضاعه النفسية وما في قلبه من حب ووجد الذي [[ من فرط خشيته من الفقدان ، يبدو عاجزا ً عن إمتلاك سعادته ]] ، هذا كلام ريلكة .

الفراق وما بعد الفراق
يبدأ فراق شريف لمن أحب في المقطع الثامن عشر وما بعده . مقابلة ستكون لا ريبَ طريفة . وجه الحياة الثاني الأسود في مقابل الوجه الأبيض . الفراق وما أقتله وأصعبه على قلوب المحبين !! ينقلب الشاعر إذ تنتهي إجازته الصيفية من حال العشق الإندماجي الصوفي بالمحبوب إلى حال اللاطم الباكي كأن َّ نهاية إجازته نهاية حياته والعالم . وضع في مقاطع الفراق كل حزنه وقنوطه وسواد لياليه فجاءت بالحق تعادل وتلغي آثار وتأثيرات سبعة عشر مقطعاً خصصها للحب والرومانس . سأختار أجزاءَ قصيرة من المقاطع 18 ـ 22 المتبقية لأنني لا أستطيع إحتمال ما جاء فيها من حسرات ثقيلة وهم وجزع ونوح ولا نواح حمام اليمامة . كيف ينهار الطبيب الجرّاح وفي مشارطه جراح ودماء البشر من مرضاه ؟ سأدمج الأجزاء القصيرة ببعضها ليكونَ وقعها أكبر وأشد إيلاماً .

[[ صمتٌ طاعنٌ في النيل ِ
مرةً أخرى في حجرتي ،
أُراني أعرّبدُ وحيداً
خفقتُ أنفثُ في أنايَ ماءَها
أُبلل كلَّ شيء ٍ حولي
غيرَ أنَّ الشمسَ تشرقُ بوهجٍ رتيب ٍ
تبخّرُ ما بقيَ منها
أرقدَ ... قفرةً أخرى
...
رائحةُ عُنقها في كوفيته ،
يتلثّمها فيموتُ سبع مراتِ ]] .

[[ مشهدُ جنازتي يمشي وراءها الأعورُ الدجّال
كَفنٌ من غزل ِ دودةِ قز ٍّ خنثى ، يرفعُ رفاتَ أمنيتي الوحيدة ]] .
[[ يا إبنَ عُرْس !
ولتحرق النارُ ماءَ وجهكَ وألتمسُ ، 
أعاودُ النكاية َ كلَّ فينة ٍ وضحاها
ليس لديَّ أية ُ حيلة ٍ أو وسيلة ٍ أو إحتمال
....
وبقاؤكِ المادي بعيدا ً عني
محضُ خطأ حسابي ٍّ فاحش 
إنني أشكك في أهلية هذا الكون ِ للإستمرارِ حين تبتعدين عني ]] .

[[ حتى في إنحرافاتِ لا وعيي
في تباريحِ أحلامي
في أثير خَدَري ، على حافة الموتِ
لا يمكنُ لهبائي أنْ يحوم حول أُنثى سواها !
كم تخبّلني عندما تخرجُ عن النص بعفوية الحاذقة 
...
وتبرأُ زجاجة ُ روحها
تترقرق ُ ( من جَد أحبكْ يا بعدْ عمري )
وأنا أبتهلُ إلى الله عشقك ِ
أنا أستحي إلى اللهِ عشقك ِ
فما قلبي غير صبخة ملح ٍ قد قحُلتْ
تنبتين منها كزهرة ِ توليب
تحبينني ... تحبينني بكل تلك القسوة ِ !
بقسوة ٍ ... تسحقني نفحة ُ روح ٍ خامدة ]].

[[ يدُكِ تُنسفني ،
قطرة ٌ منها بكاءُ الملائكة ِ
تُغرق ُ الكون َ
نبضة ُ حياتي تبدأ منّي وتنتهي في وريد عنقك ِ 
أحبّك ِ في اللوحِ المحفوظ ِ ]] .

بكاء ودموع ومرارة وموت لأكثر من مرّة . ذكريات الحبيبة رشا لا تفارق مخيلة الشاعر . يتهيأ له أنَّ رائحة عنقها ما زالت عالقة ً أو متخللة ً نسيج كوفيته . لعلها جففت دموع الوداع بهذه الكوفية أو ألقت برأسها على كتفه والكوفية تتدلى على الكتفين عادة ً . دموعه تغرق المكان فيبتّل كل ُّ شئ حوله . كل شئ ... بينما وعد َ ( هاملت ) أمير الدنمارك مهددا ً أنْ يُغرقَ المسرحَ بالدموع ، المسرح وليس كل َّ شئ . ليتَ أمرَ شاعرنا ينتهي بالدموع حسبُ ، لكنا جففناها بمناديل الحرير بدل كوفيات القطن وواسيناه وخففنا عنه من وطأة مصابه ولقلنا له لا بأسَ عليك يا عاشق والبركة فيك وفي القادم . لكنه يرى نفسه إثر الفراق ميتا ً محمولاً في تابوت والأعور الدجّال أحدُ مشيعيه . ما رمز هذا الأعور بالنسبة لشريف الشاعر المقتول حبا ً ؟ هناك المسيح الدجّال في التراث المسيحي وهناك الأعور الدجّال في التراث الإسلامي الذي يعني المهدي المزيّف لا المهدي الحقيقي الذي ينهض في نهاية التأريخ لإحقاق الحق وإقامة العدل في الأرض . وكثرة أولئك الذين إدّعوا النبوة في سالف الزمان وكلهم كانوا عورا ً دجالين . هل هو أحد حاسديه أو شانئيه أو غرمائه أو إنه رجل بعينه لا يوده الشاعر ؟ لقد ذكره شريف بصيغة ( أعور الدجّال ) وهي صيغة مخطوءة منتشرة في صفوف عامة الناس ، الصواب هو إما بتعريف الصفة والموصوف لتكون ( الأعور الدجّال ) أو بتجريدهما من ألف ولام التعريف وتركهما نكرتين بشكل ( أعور ٌ دجّالٌ).
يا إبنَ عُرس ٍ ! هكذا يرى الشاعر نفسه وقد فارق معشوقته . لا شئ . حيوان بائس بسيط من فصيلة الجرذان أو الفئران أو السناجيب يتنقل بين باسقات النخيل سعياً وراء رزقه . إستعار هذا الحيوان رمزاً لبؤس حاله وقد فارق الأحبّة . إستعاره من محيطه الطبيعي المألوف له . ثم ، ألا يحق لنا الإستنتاج إن َّ في إسم هذا الحيوان المسكين ما يوحي بقوة لميل الشاعر إلى الزواج ممن أحب ؟ العُرس ... فرحة وأمل الزواج . إبن عُرس ... فالأب عُرس إذا ً والشاعرُ عَريس .
[[ مِن جَد أحبكْ يا بعد عمري / المقطع 21 في الصفحة 95 ]] . كررها للمرة الثانية فجاءت دافئة ً صادقة كما في المرة الأولى . يا بعد عمري ... تعبير شعبي جميل شائع على ما يبدو يضع الشاعر فيه كلَّ ما في قلبه من طاقات الحب والوفاء والحنين للمحبوبة . إنه بهذا المثال وغيره القليل من أمثاله في الكتاب سجل َّ الشاعر ماركات مسجّلة بإسمه ، براءات إختراع. يكتبها كأنه يغنيها والغناء طرب ٌ والطربُ أقصى درجات السرور . حبك َ ووفاؤك يدهشني يا شريف الشهراني وقد أبدعتَ في التعبير عنهما معا ً وبجدارة رغم صعوبة الموضوعات وعسرة الوسائل للتعبير عنها ، فالشعور بالشئ أمر ٌ والتعبير عنه بالألفاظ أمر ٌ آخر . هذه هي معضلة الشعراء ومحنتهم : كيف يحوِّلون مشاعرهم ورؤاهم إلى ألفاظ هي كلمات من حروف صائتة تلتقطها آذان ُ البشر وصوت الحرف ظاهرة فيزيائية محدد ة لكن َّ كيف مطابقته بالإحساس الذي لا يتكلم وليس له حروف مسموعة ... تلك هي المشكلة .

العزلة / الغربة / الفراغ / التشاؤم

بعد سياحتنا الطويلة مع ( رشا ) و ( إنتحارات الماء ) رأيتُ أن ألخّص َ أبرز دفائن روح الشاعر وهواجسه فوجدتهاُ تتلخص في : الشعور بالعزلة / الغربة / الفراغ / التشاؤم . 
{ ثمّة َ أمرٌ آخرُ لا علاقة َ له بهذه الموضوعات ، أعني كثرة الإقتباسات وسأفرد له باباً مستقلاً } . 
أذكر نموذجين قويين يعبران عن عمق روح التشاؤم في الشاعر ، جاء الأول كمقدمة لقصيدة ( إستسقاء لقلبي / الصفحة 68 ) . وضع هذه المقدمة بين أقواس لكنه لم يبين هل هي مُقتبسة عن غيره أم إنها خاصة به ؟
( على الرغم من دمعات ِ ناعمات ٍ ناعسات ٍ تترقرق ُ على وجنتيه ِ كلما إستقبل َ الكعبة ... إلا أنه لا يزالُ يعيش ُ غُربة ً مأساوية ً مع الله والكون ).
نفهم من هذا الكلام الشديد التركيز أن َّ الشاعر والإنسان فيه محافظان على أداء الشعائر والطقوس والواجبات المفروضة على الرجل المسلم . فهو يتجه صوب الكعبة لأداء فريضة الصلاة أو لأداء مناسك الحج أو العُمرة بخشوع وإبتهال وتواضع في حضرة خالقه ولكن ، ينتصب هذا المسلم المثالي وقد فرغ من صلاته ومناسكه أمامنا فجأة ً ليعلن بكل جرأة ووضوح أنه في شك ٍّ وإنه يشعر بالعزلة والبعد عن كل ٍّ من الكون وخالق الكون !! صرخة عميقة خافتة الجرس رهيبة النتائج . يمارس الفرائض المرسومة لكنه ناء ٍ عمن توجّه له هذه الفرائض ! بعيد وغريب ٌ عنه . هل هو في شك من هذا الأمر كشأن أغلب الفلاسفة والمفكرين الكبار الذين تأثر الشاعر بهم وعلى رأس قائمتهم الشاعر والفيلسوف الألماني نيتشة . هنا نجد ـ ربما ـ أحد أسباب حزنه وقلقه وتشاؤمه . كيف يوائم بين قوتين هائلتين متناقضتين لا تنسجمان ؟ الجسد مدفوع بتأثير التقاليد والعادات والتعوّد فيمارس ما يمارس سواه من أتباع الديانة الإسلامية ، لكنّه ُ يجد في رأسه أكثر من شيطان يوسوّس ويوحي ويناجي ويبشّر مشككا ً بكل ما سلف . محنة كبرى عظيمة تشتعل نيرانها في رأس الشاعر الثائر ومعها فتنة قاصفة قاصمة للظهور فكيف لا يحزن الشاعر ولا يشعر بالوحدة ولا يتشاءم ؟ لا يلومه أحد ٌ (( والشعراءُ يتّبعهم الغاوون . ألم ْ ترَ أنهم في كل ِّ واد ِ يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون / الشعراء / الآيات 24 ـ 26 )) . الشاعر فيه يفكر بعقل متفتح ٍ واع ٍ والطبيب فيه عالم ٌ يخطط ويبرمج وينفذ مخططاته. الشاعر " يحس " ويتنبأ بصمت ٍ أما العالم فينطق بما يحس .
المثال الثاني على تشاؤمية هذا الشاعر وجدته كذلك كمقدمة وضعها لقصيدة ( تدليس الرتابة / الصفحة 101 ) . هذه المقدمة إقتباس حرفي من كولن ويلسون ( وما الذي يمكن أنْ نطلبه من هذا الكوكب الشقي الذي تتسكع فيه سوداويتنا وكآبتنا عدا الأفكار الشاحبة التي قد تساورنا عن هذه اللحظة ؟ ). 
السوداوية والكآبة وشحوب الأفكار ... تلكم أعباء ثقيلة ينوء بها كاهل الشاعر المفكر الشاك المنقسم على نفسه بين المؤمن والمرتاب . الكآبة والسوداوية هما طبيا ً المالينخوليا التي يعرفها الأطباء قبل وأفضل من غيرهم . ولا أحسب أنَّ للشك في العقائد نصيبا ً في الوقوع في داء الكآبة والسوداوية . علاقتهما بتركيبة الجهاز العصبي للإنسان . ولهما طرق للعلاج بالطب النفساني وحبوب خاصة يتداولها المرضى بهما . لعل َّ من الطريف ان نعلم َ أن الفيلسوف نيتشة كان نصف معتوه يعاني من إضطرابات عصبية لا علاقة لها بمجمل مواقفه من الدين والرب وكان من أكابر الفلاسفة الملحدين .
في كتاب ( مدن العزلة ) الكثير من الإشارات الدالة على الحزن والغربة والتشاؤم أجد كفايتي فيما قدمت ُ من أقوال للشاعر نفسه أو فيما قد إقتبسَ من سواه . وعنوان الكتاب ليس ببعيد عن مضمون هذه الأقوال والمقتبسات .
إقتباسات الشاعر
إذا بالغَ الشاعر المرحوم بدر شاكر السياب في تضمين شعره بالعديد من الأساطير القديمة وبالرموز القديمة والحديثة إسلامية ـ عربية وغيرها ... فإن َّ شريف الشهراني أكثر في كتاب ( مدن العُزلة ) من الإقتباسات وجلها قصير لحسن الحظ . الإقتباسات في نظري ديكورات وزينات تحسِّن أجواء القصيدة أو تعمّق إستيعابنا لها وتُضفي عليها مذاقا ً آخرَ ثم قد ترفع من مستواها الفني . ولكن ، تظل ُّ على قلبي يدي ... أخشى أن تُسيءَ بعضُ الإقتباسات غير المبررة لبناء القصيدة وخط سيرها العام وربما تعرقل نموها النفسي وتدرجها المنطقي في نفس القارئ فينكفئ على وجهه معها ويصاب بخيبة أمل . شريف كما يبدو لي واع ٍ لهذه النقطة ووجدته كثير الحذر في مسّه ِ لهذه الموضوعة ففيما يقتبس ذكاء وإختياراته ناجحة على الأغلب . لا يلصق شريف ما يقتبس من أقوال أو حِكم مأثورة وغيرهما لصقا ً على أديم قصيده ، إنما يجهد أن يقنع القارئ بعدالة ومنطقية وشرعية ما إقتبس . والكلام المقتبس هو جزء ها م ٌّ من نسيج وقماشة شعره سِدى ولحِمة ً مندمجا ً معه وذائبا ً فيه لا ملتصقا ً بالإكراه على سطوح القصيد . المقتبس إبن شرعي وليس ولد سفاح ( نغل ، هجين ! ) . أسماء مّن إقتبس َ منهم : 
1 ـ جان بول سارتر / ص 9
2 ـ دوستييفسكي / ص 11
3 ـ أُنسي الحاج / ص 16
4 ـ قراءة لمقطوعة بحيرة البجع / قصيدة كسّارة البندق لجايكوفسكي / ص 17
5 ـ قراءة لمقطوعة عبد مارس / ص 18 
6 ـ قراءة لمقطوعة كسّارة البندق / ص 20
7 ـ قول كان شائعا ً في القرون الوسطى معناه أنا مؤمن لأن َّ ذلك يُناقض العقل / ص 28 ... وهو ترجمة لأصل النص باللاتينية 
8 ـ بيكيت / ص 29
9 ـ أحمد الملا ؟ / ص 34 ... من هو أحمد الملا ؟
10 ـ المسيح / ص 39
11 ـ ت . س . إليوت / ص 40
12 ـ طاغور / ص 79
13 ـ سعد الدوسري ؟ / ص 82 ... من هو هذا الدوسري ؟ شاعر ؟ مغني ؟
14 ـ راينر ماريو ريلكة / ص 89 
15 ـ من أغنية لرابح صقر / ص 92
16 ـ كولن ويلسن / ص 101 
17 ـ بول لافورغ / ص 103
18 ـ حديث شريف / ص 105
19 ـ طاغور / ص 107 
المجموع الكلي = 19 إحالة أو إقتباسا ً . كان الأفضل أن يترك الشاعر شروحاً مختصرة في آخر الكتاب لتعريف القارئ بأصحاب الأسماء الذين إستعار منهم بعض كلامهم ... أو في أواخر الصفحات حيثما يرد هذا الإسم أو ذاك . ليس كل الناس يعرفون طاغورا ً وبيكيت وكولن ويلسن وتوماس إليوت وجايكوفسكي وغيرهم من المفكرين والفلاسفة والكتاب والمطربين . 
خشية أن تطول قراءتي لكتاب ( مدن العزلة ) سأذكر عناوين بعض القصائد الجيدة وأدعو القارئ إلى قراءتها فإنها تتميز الواحدة عن أخواتها الأخريات بأمور كثيرة فالشاعر شريف بُقنة الشهراني لا يكرر نفسه ولا موضوعات قصائده أبداً وهذه نقطة كبيرة أسجلها لصالحه . في كل قصيدة تجربة واحدة أو عدة تجارب متشعبة لكنها كأغصان الشجرة تتفرع عن جذع مركزي واحد يمدها بالنسغ الصاعد وبالماء وأملاح التربة :
قصيدة ( أناشيد موت منفرد / ص 59 )
قصيدة ( بقية تكاثر / ص 99 ) 
قصيدة ( تدليس الرتابة / ص 101 ) .
لولا مخافتي أن يُصاب َ القارئ بالملل لحللت وشرّحت ُ هذه القصائد ففيها الكثير مما يُغري على قبول التحدي وخوض غُمار التجربة .