الصفحات

27 يوليو 2012

مشروع شعري خاص - د. مقداد رحيم

فطن القدماء إلى أنَّ كثرة الانشغال بالعلوم مع كثرة المحفوظ منها في الذهن له أثر سلبي في بلاغة الكلام لدى المنشغلين بتلك العلوم، فتنحرف أساليبهم عن الأساليب الصحيحة لكلام العرب وبلاغتهم، لانطباع أسلوب المتكلمين منهم بطوابع تلك العلوم وكثرة المحفوظ من مصطلحاتها وتعبيراتها، ومثل هذا ينطبق على أساليب الشعراء خاصةً.
ذكرتْ بعض مصادرنا أن أحد العلماء بأساليب الكلام سمعَ البيت الآتي:
لمْ أدرِ حينَ وقفتُ بالأطلالِ........ما الفرقُ بين جديدها والبالي
فقال على البديهة: "هذا شعر فقيه"، فقيلَ لهُ: "ومن أين لك هذا؟"، فقال: من قولهِ : ما الفرق، إذْ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب". وكان على صواب، فقد كان البيت لأحد الفقهاء حقاً.
وقد تذكرتُ هذه الحكاية عندما استغرقتُ في قراءة هذا النص، ولكاتبهِ عليَّ دَينٌ قديم لابدَّ أن أفيه يوماً ساعة فراغ، فأكتب عن شعره ما يليق به، أما سبب تذكّري لها فهو إنَّ شريف بقنّة أطعمَ هذا النص الكثير من المصطلحات العلمية المادية ولم يتجاوز المصطلحات والرموز الدينية والروحية، فأنتَ تقفُ من ذلك، منذ العنوان حتى آخر القصيدة، على "تدليس" و" عُكاشة" و"تكليف" وتأويل" و"خرقة" و"تكرار ذاتك" و"لاوعي القاصي" و"قوة طرد مركزية" و"تمغنط..كتلاً" و"انحرافي الضال عن درجة التردد" و"الشكل الكهربي لهذا العبث الكهربي الإهليجي" و"تحليل الموقف" و"ميزان الصحة أو الخطأ" و"هندسة الظلال" و"رقائق سيلكون مهرقطة" و"حيزاً تخيلياً" و"قمقم خلوتي"إسقاط توقعي خاطئ" و"مستويات السيطرة" و"يُنفخ في الصور" و"لستُ رجلاً آلياً" و"زقوم ينبتُ من صلعتي" و"الأحاسيس الفورانية".... على سبيل المثال، أفتراهُ يقبس من كل علم بقبسٍ فيغمر قصيدته بكل ما أؤتيَ من العلوم والفنون والمعارف، فيجمع التصوف بعلوم القرآن الكريم، وعلم الحديث الشريف بتاريخ الصحابة، وعلم الهندسة بالفيزياء، وعلم الفلك بالفلسفة، والرسم الهندسي بالفن التشكيلي، والعلوم التقنية بالحاسوب؟!.
فإذا كان البيتُ الذي استشهدتُ به في مطلع كلامي لفقيه، فلابد أن يكون شريف بوقنة قد درس العلوم الهندسية ، وتربَّى تربية دينية، فهو مهندس!.
وبقنّة في هذا النص لا يبتعد كثيراً عن منهجه الذي رسمه لنفسه في شعره جملةً، وكأنه يؤسس لمشروع شعري خاص به وحده، يتلون بنفسيته وبأفكاره ومقدار ما استوعبه من المفاهيم من خلال قراءاته والعلوم التي أتقنها، وبشأن الحياة والموت وما يتطلبه كل منهما، ولذلك ليس من السهل التجرؤ على نصوصه وفك ألغازها، والوقوف على أسرارها، واكتشاف مواطن تعقيداتها وما وراء كل ذلك.
وإذا أمكنكَ أن تعيد النظر في قصيدته هذه لتحاول الوقوف على مضامينها، فإنك ستجد الشاعر في حالة رثاء، فهو ربما يرثي نفسه، وربما يرثي الحياة برمتها، وربما يرثي عبّاس؟! (مَن هو عبّاس؟)، وهكذا يجعلك الشاعر تدور في دوامة "ربما". وفي القصيدة شؤون أُخَر.
ولاشك عندي في أن شريف بقنة اتخذ طريقاً غير سالكةٍ وهو ينال الشعر ...طريقاً هو الذي يعرف مسالكها جميعاً دون سواه.


13/6/2005
مقداد رحيم