اختار قصائد تمتد لمئتي عام..
مختارات الشعر الأمريكي لشريف بقنة.. ترفع الستار عن وجه أمريكا الآخر
جريدة الرياض – 14 سبتمبر 2013 | الدمام - علي سعيد
أمريكا ليست فقط ماكدونالدز ولا هي صواريخ عابرة للقارات.. ثمة وجه آخر للولايات المتحدة، يذكرنا به الشاعر والمترجم السعودي شريف بقنة.. إنه أسمى فنون الأدب، (الشعر). حيث يقدم بقنة سبعة عشر شاعراً وشاعرة من أمريكا، بدءاً من أميلي ديكنسون ووليت ويتمان في القرن التاسع عشر إلى عزرا باوند و ت.س اليوت (الأمريكي الأصل) وصولاً إلى مايا أنجلو الباقية على قيد الحياة والشعر؛ في كتاب عنونه المترجم السعودي ب( مختارات من الشعر الأمريكي). الكتاب الذي ولدت فكرة ترجمته منذ العام 2009، اهتم بتعريف القارئ العربي بأسماء شعرية، تكاد لم تعرف من ذي قبل، مستعيناً خلال اختيار القصائد الأمركية المترجمة، بترشيحات مجموعة واسعة من النقاد الأمريكيين أو الناطقين بالإنجليزية، لنصوص لقيت اهتماماً نقدياً في الأوساط الأدبية الأمريكية وخارجها. الترجمة إذاً لم تكن عشوائية، بل خضعت لفحص دقيق واختيار متأنٍ استثنى منه المترجم السعودي مجموعة قصائد ترجمت بصيغة معتبرة إلى العربية، سابقاً كقصيدة الشاعر الأمريكي الأصل ت.س إليوت (الأرض اليباب). الكتاب شمل أيضاً، مدخلاً تعريفياً لكل شاعر أو شاعرة، يكون بمثابة تراجم مختصرة، وأيضاً ممهداً لما وراء القصيدة، كما نقرأ في قصيدة (أريد أن أموت) للشاعرة آن ساكستون (1928 - 1974) والتي حاولت الانتحار مرتين بعد دخولها في نوبة كآبة حادة، بعيد انجابها طفلها الأول ثم الثاني، مجيبة في قصيدتها على سؤال: (لماذا تريد قتل نفسك؟)، حيث نصغي لآن ساكستون، التي حصدت «جائزة بوليتزر» للشعر سنة 1967 عن كتابها «ليعِش أو فليمُت»: «بما أنكم تسألون، فأنا لا أتذكّر معظم الأيام/ كنت أسير في لباسي، ولا أشعر بزخم الرحيل/ هكذا يعاودني ذاك الشبق الذي لا يُسمَّى/ حتّى إن لم يكن لديَّ شيء ضدّ الحياة/ فأنا أعرف جيّداً شفير الأعشاب التي تذكرون/ وذاك الأثاث الذي وضعتموه تحت لهب الشمس/ غير أن الانتحارات لها لغتها الخاصّة/ تماماً كالنجّار/ الذي يريد أن يعرف كيف يستخدم الأدوات/ دون أن يسأل مطلقاً: لماذا يبني؟.. لم أفكّر في جسدي عند وخزة الإبرة/ حتّى قرنيَّتي وما بقي فيَّ من بَوْل، اختفيا/ الانتحارات كانت قد خانت الجسد مسبقاً/ اليافعون لا يموتون عادةً/ غير أنهم يُبهَرون، لا يستطيعون نسيان لذَّة مُخدِّر/ حتى أنهم ينظرون إلى الأطفال ويبتسمون/ أن تَسحَقَ تلك الحياة َكلَّها تحت لسانك!/ ذلك بحدِّ ذاته يستحيلُ عاطفةً/ ستقول: موت عَظْمةٍ بائسةٍ ومُجرَّحة/ مع ذلك ستنتظرني هي عاماً بعد عام/ لأمحو هكذا برقَّةٍ جُرحاً قديماً/ لأُخلِّصَ شهقتي من سجنها البائس/ نتَّحد هناك، الانتحارات تلتقي أحياناً/ نحتدُّ عند فاكهة وقمر مفقوء/ تاركين/ كِسرةَ الخبز التي أخطأتها قبلاتهم/ تاركين صفحةَ كتابٍ مفتوحةً مُهملةً/ وسمَّاعة هاتف معلَّقة/ لشيء لم يُلفظ بعد/ أمّا الحبّ، أيّاً يكن، فليس سوى وباء.
رائد الشعر الأمريكي الحر ولت ويتمان (1819 – 1892) يحضر بلاشك في المختارات بمجموعة، قصائد من بينها قصيدته الشهيرة (أوراق العشب) والتي نشرها في ديوانه الأول عام 1855، وفيها نلتفت للشق الفلسفي في شعر ويتمان: « طفل قال لي ما هو العشب؟/ كان يحمله إليَّ بكلتا يدَيه/ كيفَ يُمكنُ أن أُجيبَ الطفل؟/ إني لا أعرف عن ذلك أكثر مما يعرفه هو/ أظنّه قد يكون الإشارة إلى تشتُّتي/ بعيداً عن صخب المادةِ الخضراءِ المتفائلة/ أو أظنّ أنه منديلُ اللوردِ/ تذكارٌ وهديّةٌ معطَّرة سَقطَت عن عَمْد/ عُلِّق عليها اسمُ المالك بطريقةٍ ما في الزوايا/ ذاك الذي قد نراه ونشير إليه/ ثم نقول: مَن.
عزرا باوند الذي غيّر شكل الشعر الأميركي وهو المنتمي لحركة الحداثة الشعرية والتصويرية، يحضر في الكتاب بكل التباساته. وهو الشاعر الذي اشتهر بتأييد نظام موسوليني، ومعاداة النظام الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية. سجن في مصحة للأمراض العقلية وعندما سُئل عن رأيه في بلده بعد إطلاق سراحه ردّ قائلاً: «أميركا بيمارستان كبير». وفي نص لعزرا باوند نقرأ: « قد يحدث أنك شجرة/ أنك طحلب/ أنك بنفسج والريح تهدهد من فوقه/ قد يحدث أنك مجرّد طفلٌ، - شيء سامٍ – أنت إذاً، وكل هذا...كل هذا مجرّد عملٌ أحمق أهديه إلى العالم».
ويستان هيو أودن (1907 – 1973) الشاعر الانجليزي ، الأمريكي الجنسية يحضر بثلاث قصائد نختار منها مرثيته البالغة الأثر والحزن: (لحن جنائزي حزين)، حيث نصغي لأنين أودن وهو يشجو: « أوقفوا الساعات كلّها، اقطعوا التلفون/ امنعوا الكلب من العواء واللهاث بعظمته/ صمتٌ/ بيانو يعزف وصوت كظيم يتسرّب من طبله/ أحضروا التابوت إلى هنا، وأقيموا الحِداد/ دعوا الطائرات تحوم فوق رؤوسنا وتنوح/ مغبِّشةً صفحة السماء برسالة: «لقد مات»./ وعلى أعناقِ الحمام الأبيض اربطوا شارة الحداد، دعوا رَجُل المرور يلبس قفّازات من القطن الأسود؛... لطالما ظننت أن الحبّ يبقى إلى الأبد، لكنني كنت مخطئاً. الشاعرة إيميلي ديكنسون (1830 - 1866) والتي يحتفظ لها مؤرخو الشعر الأمريكي بسيرة حياة لا تقل سحرية عن شعرها، وهي من خبّأ لنا في خزانتها ما يناهز الألفَي قصيدة جمعتها على طريقتها في مجلّدات كثيرة، نُشر أول تلك المجلّدات بعد رحيلها بأربعة أعوام، ونُشر آخرها العام 1955. ومن نصوص إيميلي ديكنسون نقرأ نص (شعرتُ بجنازة في دماغي) والمبحر في خيال المنلوج الداخلي: «ونادبون ذهاباً وإياباً/ استمرّوا يسيرون ويسيرون/ حتّى بَدَا ذلك الإحساس/ وكأنه يغور/ وما أن جلس الجميع/ وصوتٌ مثل طَبلة/ ظلّت تَضرب وتَضرب/ حتّى ظننت/ أن عقلي بدأ يخدر/ بعد ذلك سَمعتُهم يرفعونَ صندوقاً/ وبصريرهِ عَبَرَ روحي/ من أحذية الرصاص تلك/ مرَّةً أخرى/ ثمّ بدأ فضاء... يرنّ، كأنّ السماوات كلّها كانت جَرَساً، وأنا لستُ سوى أُذُنٍ، أنا، وصمتٌ، ثمّة عِرْقٌ غريب/ محطَّمٌ، معزول، هنا/ بعد ذلك لوحُ خشب كان وراء كل شيء، انكسرَ/ وسقطتُ أنا... عميقاً، عميقاً إلى الأسفل... وارتطمتُ بالعالم، عند كلِّ سَقْطة/ وانتهى إدراكي، حينها «.
وفي قصيدة (بغض) لهيلدا دوليتل (1886 - 1961) لا تقرأ فقط قصيدة تصويرية، هاربة ومنفلتة إلى الطبيعة وإنما نلاحظ ميل القسم الأول من المختارات إلى هذا النوع من القصائد المحاكية لروح الطبيعة في والمطعمة بوخزات الفلسفة والتأمل في آن، كدأب شهر القرن التاسع عشر وما لحقه.. كما عند دوليتل أيضا، التي هاجرت مبكرا إلى سويسراً. حيث نقرأ: « أيتها الرياح/ اقشعي البغض من هنا/ واكشفيه، مزّقي البُغض إرباً إرباً/ وانزعيه/ مرّغيه كبقايا خرقة بالية./ الفاكهة لا تستطيع السقوط/ في مثل هواء غليظ كهذا... الفاكهة لا تستطيع السقوط/ في سَعير دَفَن رؤوس الصنوبر وعَقَدَ عناقيد العنب». صاحب قصيدة الأرض اليباب الشهيرة، الشاعر الأمريكي الأصل، ت.س اليوت، يحضر في كتاب المختارات بنصين نختار منهما قصيدة (الرجال الجوف - 1925) وهي قصيدة تتحدّث عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا. لنصغي لاعتراف اليوت في هذه القصيدة: «نحن الرجال الجوف/ نحن الرجال المحشورون/ نترنّح سويّة/ مثل/ رؤوس من القشّ/ واحسرتاه/ عندما نهسهس لبعضنا/ بأصوات قاحلة/ نبدو بلا جدوى مدجّجين بالصمت/ كريح تهبّ على عشب يابس/ أو كأرجل فئران تسير على زجاج مكسور...في قبونا اليابس.
الكتاب شمل أيضاً، قصائد للسينمائية والفنانة والشاعرة الأمريكية من أصول أفريقية، مايا أنجلو (مواليد1928) والتي عملت لسنوات في الصحافة وتنقلت في عواصم عديدة منها القاهرة. في قصيدة ( أظل أسمو) نلاحظ قوة الثقة بالنفس عند مايا أنجلو الإنسانة، في زمن مرت عليه، كانت العنصرية ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، بمثابة الهواء الفاسد الذي يخنق أمريكا. فماذا تقول انجلو: « أظلُّ أسمو/ قد تكتب في صفحات التاريخ/ إنني مجرّد نكرة/ بسخريتك وحيَلك الملفّقة/ قد تطأني بقدمك تأفُّفاً/ لكنني،تماماً كالغبار/ أظلّ أصعد، أظلّ أسمو/ هل ضايقك جوابي الوقح هذا؟/ لماذا أراك تحدّق محاصَراً بالهموم». لتستمر أنجلو في تحديها فتخاطب: « قد تكون نجحتَ فنلتَ منّي بكلماتك!/ قد تكون/ مزّقتني بنظرات عينَيك/ وببغضك – على ما أظن - قتلتني!/ لكنني رغم ذلك... تماماً كالهواء..أظلّ أصعد، أظلّ أسمو».
وتحت عنوان: سوريالي قروي أرعن، يختتم بقنة مختاراته من الشعر الأمريكي مع الشاعر جون آشبري (1927) وهو نييوركي المولد، عاش لسنوات في باريس ثم عاد ودرَّس في العديد من الجامعات الأميركية منذ بداية السبعينات حتى تقاعده العام 2008، شغل منصب رئيس «الأكاديمية الأميركية للشعراء» سنواتٍ عديدةً ويعدُّ آشبري أحد أهم شعراء «مدرسة نيويورك»، والتي أسَّسها في السبعينيات. تميَّزت أعماله الشعرية والنقدية بالأصالة والانطباعية الساحرة وحضور الأجواء الغامضة والمظلمة أحياناً، بعض النقّاد يعتبرون تجربته بمثابة لوحات تجريدية مرسومة بالكلمات. يقول الشاعر وأستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة هارفارد ستيفن بيرت: «لا يوجد شاعر أثَّر في الشعر الأميركي كما فعل جون آشبري بما تحمله قصيدته من تنوّع واتساع في الرؤية». نقرأ لآشبري من قصيدة (الغرفة): « هذه الغرفة/ الغرفة التي دخلتُ إليها كانت حلمَ تلك الغرفة/ بالتأكيد كل آثار الأقدام التي على الأريكة هي آثار أقدامي/ البورتريه البيضاوي لكلب، أظنّه كان لي ذات عمر مبكر/ ثمة شيء يومض/ وآخر يخفت/ كنّا نتناول المعكرونة على الغداء كل يوم/ عدا يوم الأحد/ كان يقدّمها لنا سمَّان صغير/ لكن لماذا أُخبرك بكل تلك الأشياء/ فأنت حتّى لم تكن هناك».