العدد -2618- السنة التاسعة والستون - الخميس 02 ذو الحجة 1441هـ - الموافق 23 يولية 2020م
منتصف الصيف، توباغو (٢)
شواطئُ عريضةٌ بسطَتْها الشّمسُ.
حرارةٌ بيضاءُ.
نهرٌ أخضرُ.
جسرٌ،
نخلاتٌ صفراءُ مُشيّطة
من منزلِ استجمامةِ الصّيفِ
أيامُ أغسطس الناعسةُ.
الأيّامُ التي قضَيْتُها،
الأيّامُ التي فقدتُها،
الأيّامُ التي كبُرت معي، مثل البناتِ،
أذرعي التي نذرتُها.
** ** ** **
نحيبٌ بعيدٌ من أفريقيا
ريحٌ تُقَشعِرُ جلدَة أفريقيا
السمراء، كيكويو(٣). بسرعةٍ كذُبابٍ
يسبحُ في حمّام دَمٍ فوقَ السّهابِ.
الجثثُ مُبعثَرةٌ في الجنَّةِ.
وحدَها الدودةُ، كولونيل الجيفةُ، تبكي:
"لا تُضيّعوا أيَّةَ رأفةٍ على هؤلاءِ
القتلى المنفصلين!"
الأرقامُ تُثبتُ،
والعُلماءُ تضبطُ بلا رَويّةٍ
مرتكبي السياسَة الاستعمارية.
ما الذي يعنيه ذلك
لطفلٍ أبيضَ في سريره مغدور؟
للهَمَجِ، لضحايا اليهود؟
صوت المغنّي (٤) يُخرجُه من عُشِّه
تنهارُ قفزتُه العاليةُ في غُبارٍ أبيضَ حزينٍ
تناثرَ منذُ فجرِ الحضارةِ
عن نهرٍ جافٍّ أو سهلِ وحوشٍ.
بَطْشُ الوحْشِ بالوحش يُعرّف
بقانونِ الطبيعةِ، لكنَّ الإنسانَ
ينشدُ ألوهيّتَه بافتعالِ الألمِ.
هائمٌ مثلَ هذهِ الوحوشِ الهائمةِ،
ترقصُ حروبُه على جلدةِ الطبلةِ المشدودةِ
بينما لايزالُ يدعو الشجاعةَ رهبةَ أهلِ البلادِ
من سلامٍ أبيضَ تعاقدتْ عليه الأمواتُ والعبادُ.
مرةً أخرى الضرورةُ الوحشيّةُ تمسحُ كفَّيْها
على منديلٍ بدعوى النّتَن، تُبَدِّدُ عطفَنا
مرةً أخرَى، كما هو الحالُ مع إسبانيا،
الغوريلا تتصارعُ مع سوبرمان.
أنا الذي تسمّم بدمِ كليهما،
إلى أين ألتفتُ وأنا مقسومٌ حتّى الوريد؟
أنا من ألقيتُ عليه اللعنةَ،
الضابطُ الّسكرانُ من الحكم البريطاني،
كيف أختارُ بين أفريقيا ولساني الإنجليزي؟
أخونُ كليهما، أو أعيدُ إليهما ما أعطياني؟
كيف أواجهُ هكذا مجزَرةً وأحيا في طمأنينةٍ
كيف أدير ظهري لأفريقيا وأعيش السّكينةَ؟
** ** ** **
بلا عنوان (قصيدة رقم ٥٤)
هذه الصفحةُ هي السحابةُ بين حافتي خِصامٍ
نتوءٌ أرضيٌّ يبدو كأنَّه جبالٌ محطّمةٌ
ما يلبَثُ أن يختفيَ مرةً أخرى وتبتلعُه الأثلامُ
تمتدُّ زرقةٌ صحوةٌ الآنَ، بحرٌ في أخدودِ
وجزيرةٌ تسُمّي الأشياء، حوافُّها مُغْرَةُ (٥) الأجسامِ
وديانُها مغموسةٌ بالظّلالِ وطرُقُها ملتويةٌ
خيوطٌ تربطُ قرى الصيدِ، عبابُ الموجِ الأبيضِ الصامتِ
على طولِ السّاحلِ، حيثُ يصلُ خطُّ النّوارسِ كما السهْم
إلى الميناءِ الآخذِ في الاتساعِ لبلدةٍ بلا ضجيجٍ،
شوارعُها تلتصقُ ببعضها مثلَ الأحرفِ المرصوفةِ التي تقرؤُها الآنَ،
سفينتا كروز، سَكّونة (٦)، قاطرةٌ بحريةٌ، زوارقُ عتيقةٌ،
حيثُ تغطّي السحابةُ الصفحةُ ببطءٍ لتُصبحَ
بيضاءَ مرةً أخرى ويصلُ الكتابُ إلى نهايتِهِ.
** ** ** **
القَطار
من ناحيةٍ، إنجلترا المروّعةُ،
الحديد، وحلُ مدارجِ المطارِ،
من الناحيةِ الأخرى، أنقاضُ أشجارٍ
محترقةٍ، يدٌ تعبثُ بنوافذِ العربةِ.
من أين جاء جدّي الأبيضُ الشّبِقْ؟
غادرَ هنا قبلَ قرنٍ
ليجدَ "مزرعتَه"،
ومثلُ آلافٍ آخرين،
بذَروا أرخبيلهم مخمورين.
من خلال زجاجٍ قذرٍ
تعبرُ أرضُه الزِّراعيةُ إلى وجهي.
أسْوَدُ ويائسٌ
وضعَ لحمَهُ على النَّارِ،
اِسْوَدَّ كشجرةٍ من لهَب واستعارَ،
يغلي دمُهُ في داخلي بينما يندفعُ هذا المحرِّكُ
وتشيطُ بشرتي مثل زُنَّارٍ مطبوعٍ باسمِه.
على رصيفِ محطّةِ الأحدِ القاتمةِ
تحدّقُ الوجوهُ البريئةُ وتتفرّقُ
مثل سككِ الحديدِ الضائعةِ،
وأنا مثلكَ يا جدّي، لا يمكنني تغييرَ المكانِ،
أعودُ بيتي ظمآن.
** ** ** **
أردواز
أفكّرُ في بناء جُملةٍ عن لون الأردواز (٧)،
ببريق البلور لإحساسٍ عرَضي، بوميض الميكا (٨) لفِطْنةٍ عابرة.
لست مُتعباً من تَيْه المجاز،
لكن الأيام الرماديّة مفيدة، دون انعكاس،
مثل رَمْلٍ ترشّح بعد شفق الحبّ.
أفكر في تجنّب مفرداتٍ مثيرةٍ أو وقَفَاتٍ ميلودرامية كالموت،
أو ندَمِ الخسارات، أو لا؛ لا خسارةَ دون حبٍّ،
ولكن هذا أيضاً يجب أن يكون صامتاً، يجبُ ألا يفوت
مثل مترونوم (٩) التنفس قريب من القلب.
قِفْ. استئنفْ. قِفْ. وتُعاودُ الكَرّة بالتوارد.
حصانٌ رماديّ، بلا راكبٍ، يرعى أينما ذهب العُشْب،
حصانٌ أردوازيّ يجرُّ خصلاتَه على شاطئٍ بارد،
يرحل آخرُ جُرحٍ متوهّجٍ، تغلق الشمسُ بيتَها في الليل
ويصبحُ كل شيءٍ على وشَكِ الانقراض. حتى الندم.
خصوصاً النّدَمُ والأسَفُ والشوقُ والوَيْل،
باستثناء موجِ الظلام الذي يواسي بغرابة صلابته.
إنهّم يأتون بذات الأخبار القديمة،
ليس فقط بحشرجة الموجِ على الشاطئٍ وغرغرته،
ولكن هناك شيءٌ أبعدَ من الموجةِ الأخيرةِ،
قشورُ السّرطان التي أبيَضْت ورائحةُ الحشائشِ اللاذعة،
أبعدُ من النجوم التي بدت دائمًا صغيرة
لتلك المساحات اللانهائية، التي ظنّها (باسكال) خادعة
أفكّر في عالم خالٍ من النجوم والأضداد. متى تكون اللحظة الأثيرة؟
_________________________
(١) اختيار وترجمة شريف بُقنه، عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات - الشارقة 2021.دريك والكوت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية.
(٢) توباغو (Tobago) جزيرة في جنوب البحر الكاريبي، وهي جزءٌ من أرخبيل جزر يشكِّل جمهورية ترينيداد وتوباغو ويقع قريباً من فنزويلا
(٣) الكيكويو أو الجيكويو "Kikuyu"، جماعةٌ عرقية من كينيا، يشكلون الآن حوالي٢٢٪ من إجمالي السّكان. استجابت قبائل الكيكويو بصدر رحب المبشرين والتعليم الأوروبي وكان لديهم فرص الحصول على التعليم والمشاركة في اقتصادات الأموال الجديدة في البلاد.
(٤) المنادي أو المغني: طريقة يحتال بها الصياد على فطرة الطيور بتقليد أصواتها أو باستخدام الطبول ليخرجها من أعشاشها. ورد في النص الأصلي كلمة (ibises) طائر أبو منجل كتسمية للطير المراد اصطياده، حذفت التسمية من الترجمة لضرورة فنيّة.
(٥) مُغْرَة (ochre) وهو الطين الأحمر أو الأصفر، والشاعر يتحدث هنا عن جزيرة ويستكشفها بعيني طَيْر تظهر المعالم و تتوسط البحر، ربما يشير إلى جزيرته سانت لوسيا والتي تقع شرق البحر الكاريبي
(٦) السَكّونة (schooner) وهي مركب شراعي ذو صاريَتين أو أكثر
(٧) أردواز (slate) لون حجر الأردواز أو حجر السجيل وهو صخر مرقق تكوّن من الطين والرماد البركاني، يميل اللون الى إلى الرمادي الصلصالي
(٨) ميكا (mica) هي مجموعة معادن من السليكا تتبلور في هيئة طبقات
(٩) مترونوم (metronome)، رقّاص الإيقاع أو بندول الإيقاع وهي أداة تعطي تكتكة أو علامة تجزئة وهذه التكتكة تكون منظمة وثابتة