قبل أيام عندما وقفنا على القبر المفتوح أنا وإخوتي لم نذرف دمعة واحدة، أصبحنا نعرف أن بئراً بذاك العمق لا تمتلئ بهكذا ماء. فبدأنا نبكي مثلما كان يبكي هو، بطريقة مختلفة، وغريبة ومفزعة، كان الماء يدخل إلى أعيننا ولا يعود.
هذه الكلمات مقتطفة من قطعة فنية غاية في البراعة كتبها مازن سرحان في رثاء أبيه. قال في نفس النص في عبارات سابقة، منذ أن غاب جدي حسين سرحان آخر مرة في العام 1413 لم يعد، وبكى عليه زامل بطريقة مختلفة وغريبة أفزعتني، حيث كان الماء يدخل إلى عينيه ولا يعود، أصبح هذا النوع من البكاء مألوفاً لدي الآن.
لدي دائماً هذه الهيبة تجاه الفقد والكتابة عنه. كل الذين رحلوا وكانوا قريبين مني لم أستطع الكتابة عنهم. وحين أكتب أشعر أن الكلمات باهتة ولا تقول شيئاً، أختار البكاء على الكتابة. البكاء أسرع، لا ينتهي، ولا يحفر عميقاً في القلب كما تفعل الكتابة، لذلك أنظر بحسرة إلى الذين يستطيعون فعل ذلك. أعرف أن الألم لا يختفي، لكنني أريد أن أجرب، أن أحفر عميقاً في القلب، أنبش الكلمات، أبحث عن أكثر ما يوجع، عن الحزن الذي يختبئ ويتوارى، أبحث عن منبعه وأفجره مرة واحدة، بدل أن يتدفق كلما عنّ له ويرسم جدولاً على خدي.. لكني لا أقدر، تراوغني الكلمات، اختفت حين مات أبي، اختبأت حين مات إبراهيم منصور، ومحمد الثبيتي وشمس الحسيني وعابد خزندار.. كلما فقدت عزيزاً، أبحث عن الكلام، تصبح الأحرف أسطراً من نمل، تتفرق في كل اتجاه، لا تطاوع ولا تستجيب، غادِرةٌ الكلمات، خصوصاً في الموت. لا تمنحني أي سكينة.. تقذف بي في وجه الألم، أعيشه وأبحث عن كلمات الآخرين، لعلها تجعل الفقد مفهوماً أو على الأقل ترتب الحزن وتربت عليه.
كتب شريف بقنه عن رحيل ابنه كتابة تفتت القلب، شعرت وأنا أقرؤها أن الموت لابد أنه خجل، لأنه خطف جواد شريف بقنه، أو لعله فخور لأنه فجر هذه الكتابة التي لا تماثلها كتابة في فقد أب لولده..
"وداعاً لخجل الملاك، لقبلة الصباح، لسر توشوش به أذن أخيك فيضحك، لكيس حلوى تقتسمه معه... لك حرير الطمأنينة يأويك في روضتك، حمامة الرضا تنوح في مسراك ولي القيامة وغصة تخنق الحلق".
لنا نحن أن نقرأ مازن وشريف وكل الذين ودعوا راحليهم بكلمات لا تذهب مع الريح ولا تجف على الوجنات ونكون ممتنين.