
صعود الآلات
تجري أحداث أهم أجزاء قصتنا منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولكن من المفيد أن نبدأ بسرد أكثر شمولاً يوفر سياقًا أوسع. أحد أهم الاستفهامات يتعلق بكيف أدى التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية إلى تغير جوهري في كيفية تصور الصحة.يبدأ الفصل بإلقاء نظرة سريعة على كيفية فهم الصحة كشكل من أشكال الانسجام في اليونان القديمة وأماكن أخرى في العالم القديم، واستمر ذلك حتى القرن السابع عشر على الأقل. انتقل بعد ذلك إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي أعد عمله رمزًا لتحوّل أوسع في الفكر التنويري حول الجسم والصحة. بالنسبة لديكارت، أُعيد تصور الجسم باعتباره آلة. من هذا المنظور، لم تعد الصحة مسألة انسجام، بل أصبحت آلية عمل لابد وأن تعمل بشكل صحيح. أخيرًا، انتقل إلى صعود الرأسمالية والثورة الصناعية. أوضح أنه، وبعيدًا عن كونه تطورًا علميًا لا مفرّ منه، أصبح تصوّر الجسم كآلة مقبولًا على نطاق واسع لأنه ساعد في تطبيع التسلسلات الهرمية الجديدة التي انبثقت من الرأسمالية. هذه النظرة الشاملة، التي توضح كيف أدخلت الرأسمالية مفهومًا جديدًا وعلمًا متوافقًا عن الصحة، ستسهم في تمهيد الطريق للفصول التالية التي تناقش صعود النموذج المرضي.
الصحة كانسجام
كان زمن أبقراط هو العالم الكلاسيكي للمدن اليونانية حيث دارت معارك شهيرة، وألّف الشعراء العظماء ملاحمهم، وتجادل سقراط مع مواطنيه في سوق أثينا. بسبب بساطة الطب في تلك الفترة، أصبحت الأمراض المزمنة والإعاقة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، ولم يكن هناك فصل أو تمييز للإعاقة يشبه ما حدث لاحقًا. تُظهر الأدلة الأثرية، على سبيل المثال، أن المعابد احتوت على سطوح مائلة لتسهيل وصول ذوي الإعاقة الحركية [1]. مع ذلك، كان هناك تمييز ضد ذوي الإعاقة؛ ومن ذلك الاعتقاد السائد بأن المرض عقاب - أو في بعض الأحيان هدية - من الآلهة. يرجع تاريخ هذا "النموذج الأخلاقي" للإعاقة إلى مصر القديمة، حيث يقوم السحرة الأطباء بطرد الأرواح الشريرة إلى جانب توفير التدخل الطبي اللازم.ولد أبقراط العام٤٦٠ قبل الميلاد تقريبًا في جزيرة كوس، قبالة سواحل تركيا. تعلم أولًا على يد والده، الطبيب هيراكليدس. بعد أن تعلم كلّ ما لدى والده، جاب أبقراط أنحاء واسعة لتعلّم المزيد عن الطب. في حين لا يُعرف سوى القليل على وجه اليقين عن أسفاره أو حياته اللاحقة، إلا أننا نعرف من معاصره أفلاطون أن أبقراط عاد إلى كوس وأصبح مشهورًا بعمله الطبي وتعاليمه. [2]
نعلم أيضًا أن عددًا كبيرًا من النصوص، المعروفة باسم كوربوس أبقراط Hippocratic Corpus، لا تزال موجودة. كتبها أبقراط أو أتباعه. من هنا يتضح إرث التقليد الأبقراطي؛ في حين كان يُنظر إلى المرض تقليديًا من خلال عدسة دينية فهم الأبقراطيون المرض بطريقة طبيعية كمشكلات في الجسم أو العقل. كما كانوا روادًا في طرق الملاحظة والتوثيق وطوروا أنظمة تشخيصية معقدة لتفسير وعلاج الأمراض.
مع مرور الزمن، أصبح العاملون في هذا التقليد قادرين على علاج الجروح الملوثة وطوروا أدوات وتدخلات جراحية مهمة، وفهموا أهمية التغذية السليمة للجسم. اعتبروا أيضًا أن الدماغ، على حد تعبير أحد نصوص أبقراط "مقر الجنون والهذيان، والمخاوف والأهوال التي تباغتنا"[3]. عندما يتعلق الأمر بالأمراض العصبية فقد ميزوا بين الهوس والكآبة والجنون والصرع بأساليب لا تختلف كثيرًا عما جاء في أعمال الأطباء النفسيين الأوائل بعد أكثر من ألفي عام.[4] هنا شهدنا لأول مرة الاعتراف بحالات عصبية محددة بدلًا من الفكرة التي تنسب الجنون إلى آلهة خبيثة أو غاضبة.
لكن هنا أيضًا تنتهي التشابهات مع الطب المعاصر. الاختلاف الأهم هو أن مفهومهم للصحة يختلف تمامًا عن المفاهيم التي لحقتهم. في يومنا هذا تُفهم الإعاقة في سياق علاقتها بالحالة السوية والمفاهيم الإحصائية. لم يكن مثل هذا المفهوم متداولًا في العالم القديم. في حين أن الفيثاغوريين طوروا مفهوم "المتوسّط" الحسابي قبل وقت قصير من ولادة أبقراط إلا أن هذا المفهوم كان مجردًا إلى حدٍّ كبير. كما كتب سايمون رابر "يذكر الفيثاغوريون المتوسط الحسابي في سياق الموسيقى والتناسب إلى جانب المتوسط الهندسي والتوافقي ولم يقترحوا استخدامه لتلخيص البيانات"[5]. من ثم فإن فكرة الأداء الوظيفي "الطبيعي" - أو بشكل أكثر تحديدًا معدل ضربات القلب الطبيعي وقدرة الرئة الطبيعية والطول الطبيعي والقدرة الإدراكية الطبيعية وما إلى ذلك - ستكون غريبة تمامًا على أطباء العصور القديمة.
عرّف الأبقراطيون المرض على أنه اضطراب في الانسجام الجسدي أو التوازن أو الاستقرار. يتمثّل توازن الصحة فيما اعتبروه الروابط الأساسية الأربعة أو "الأخلاط humours" وهي الدم والبلغم، والعصارة الصفراء والعصارة السوداء. من هذا المنطلق كما يلخص المؤرخ أندرو سكل "يتكون كل واحد منا من أربعة عناصر أساسية تتنافس على التفوق" بطرق يمكن أن تؤدي إلى توازنها بشكل أكبر أو أقل. [6] إذا كانت هذه العناصر متوازنة، فإن الجسم يكون سليمًا، وتنتج أمراض مختلفة من أشكال مختلفة من الاختلال.
بالمثل، يمكن اعتبار الصحة كحالة من التناغم والانسجام بين الفرد والبيئة المحيطة به. على سبيل المثال، تتغير هيمنة الأخلاط المختلفة بتغير المواسم، مما يؤدي إلى تغيّر الأمراض. اقترح الأبقراطيون أيضًا أن الوظائف العصبية يمكن أن تتأثر بتغيرات الطقس. فمثلًا، -كما يفترض أحد النصوص-، فإن "الرياح الجنوبية" يمكن أن "تبعث الراحة إلى الدماغ" وأوعيته الدموية، بينما "ستجمّد" الرياح الشمالية أجزاء من الدماغ، وتجلب كل ظاهرة معها تأثيرات إدراكية مختلفة.[7] إذا كان شخص ما مريضًا، يُنظر إلى مرضه باعتباره علامة على وجود نقص في توازن وانسجام الأخلاط أو انعدام في التناغم بين الفرد والبيئة، وتُفسّر المشكلات الطبية بملاحظة أنماط عدم التوازن.
في حين أن تركيزنا سيكون على المفاهيم الغربية للصحة، فمن اللافت ملاحظة أن مفاهيم التوازن للصحة البدنية والعقلية يمكن رؤيتها أيضًا في مجموعة من الفلسفات الطبية التقليدية على الصعيد العالمي. تشمل هذه التقاليد الأيورفيدية Ayurvedic tradition في الهند، والطب الصيني القديم، والطب المصري القديم، والتقاليد الطبية الشفهية للإنكا.[8] من المؤكد أن كلًّا من هذه التقاليد تختلف في مجموعة من التعقيدات والفروق الدقيقة، ولم يستخدم أيّ منها المفهوم الأبقراطي لـ "الأخلاط". مع ذلك، فقد نظروا إلى الصحة على أنها، -بمعنى أو بآخر-، مسألة انسجام أو توازن داخل الفرد، أو بين الفرد والبيئة والمجتمع. على سبيل المثال، حسبما نقل أليكسوس ماكلويد، اعتقد أولئك الذين ينتمون إلى التقليد الكونفوشيوسي القديم في الصين أنه "إذا كنا في مجتمعات سيئة أو شريرة أو غير صحية، ستضطرب معتقداتنا وعواطفنا وتوقعاتنا ومواقفنا (من بين أمور أخرى) بطرق خطيرة.[9]" .
وهكذا، في جميع أنحاء العالم القديم، لم يكن المرض يعني وجود خلل ميكانيكي، ولكن انعداماً للتوازن في الذات أو مع البيئة أو الآخرين. بعيدًا عن كونها مقتصرة على العصور القديمة، استمرت هذه التقاليد حتى وقت قريب جدًا. على سبيل المثال، تطور تقليد الأخلاط في روما القديمة من خلال أعمال جالينوس، وخلال العصر الذهبي الإسلامي على يد ابن سينا، من ثم عبر أوروبا في العصور الوسطى. على نحو مماثل، انتشرت تقاليد التوازن القديمة الأخرى على مستوى العالم، واستمرت حتى العصر الحديث. ظلت المعادلة الأساسية بين الصحة والانسجام، والمرض وعدم التوازن سائدة حتى عصر الاستعمار، وعصر التنوير، والأهم من ذلك، حتى صعود الرأسمالية.
الجسم كآلة
كان التحول إلى طريقة جديدة لفهم الصحة يتعلق جزئيًا بالمفهوم الجديد لـ "الحالة السوية"، الذي سأعود إليه في الفصل التالي. لكنه يتعلق أيضًا بالفهم الآلي الجديد للجسم. ثمة تلميحات تشير إلى ذلك الفهم في فترة سابقة، إلا أن تشبيه الجسم بالآلة اُقترح بوضوح في القرن السابع عشر من قبل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. ولد في فرنسا العام ١٥٩٦، ثم سافر، ودرس في جميع أنحاء أوروبا. بلوَر ديكارت رؤاه ونظرياته مع بزوغ فجر التنوير. خلال تلك الفترة، تركز اهتمامه على العقل والملاحظة، وكسر العقائد التقليدية، الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى تقدّم هائل في الفلسفة والعلوم والتكنولوجيا الأوروبية.في حين أن اهتمامه بالطب نشأ مبكرًا، واعتمد على أعمال معاصريه، إلا أن الأعمال الفارقة لديكارت جاءت بعد وفاة ابنته فرانسين البالغة من العمر ٥ سنوات. بشكل مأساوي، استسلمت فرانسين للحمى القرمزية العام ١٦٤٠، مما ترك ديكارت في حالة يُرْثَى لها. يبدو أن هذا دفعه إلى التحول نحو موضوعات أكثر عالمية مثل طبيعة الروح ووظيفة الجسد. من الممكن تمامًا أن وفاة فرانسين المأساوية كان لها تأثير على الفكرة التي يُعرف بها اليوم. تلك الفكرة التي تتناول ازدواجية حادة بين الجسم والعقل، حيث يمكن للعقل البقاء بعد تدهور الجسد ميكانيكيًا، أو حتى بعد الموت نفسه.
في كتابه "تأملات" الصادر عام ١٦٤١، الذي كتبه في هولندا بعد وقت قصير من وفاة فرانسين، كتب ديكارت عن مفهومه للجسم. اقترح عددًا من التشبيهات بين الجسم والآلة. على سبيل المثال، شبه الجسم السليم أو المريض بساعة جيدة الصنع أو مكسورة. كذلك شبّه أجزاء معينة من الجسم بآلات أو أجهزة محددة، مثل تشبيه العيون بالتلسكوبات. كتب "يمكننا في نهاية المطاف اعتبار جسم الإنسان كنوع من الآلات المكونة من العظام، والأعصاب، والعضلات، والأوردة، والدم، والجلد".[10] بينما كان مفهومه للعقل أكثر تجريدًا ومتوافقًا مع وجود روح خالدة، كان تصوره عن الجسد يقتصر كليًا على ما يمكن رؤيته ودراسته بموضوعيّة.
باقتراحه هذا، رفض ديكارت الرؤية التقليدية للجسم ككائن ديناميكي، يتكون من أخلاط متنافسة، ويتغير دائمًا في علاقة مع بيئات مختلفة. أصبح الجسم بالنسبة له الآن آلة معقدة مكونة من أجزاء ميكانيكية صغيرة تعمل معًا للحفاظ على الصحة. على هذا النحو، فإن أجزاء معينة من الجسم، أو حتى وظيفة الجسم العامة، يمكن أن تعمل أو تتعطل، ويمكن إصلاحها من قبل أي شخص لديه المعرفة والموارد، تمامًا مثل الساعات أو غيرها من الآلات التي صنعها أو أصلحها حرفيون كبار من زمن ديكارت.
ما كان مستغربًا في عملية إعادة التصور هذه هو أنه، على النقيض من تجربته الخاصة مع فرانسين، تأمّل بأن يأتي يوم يمكن فيه إصلاح أي جسم بشري. بالنظر إلى تصوّره الآن، يمكننا أن نرى أن أمل ديكارت لم يكن بلا أساس. اليوم، يمكن علاج الحمى القرمزية بسهولة بالمضادات الحيوية، كما هو الحال مع الكثير من الأمراض الأخرى التي كانت قاتلة في زمن ديكارت. من المؤكد أن ظهور الطب الآلي (الميكانيكي) قد أنقذ عددًا لا يُحْصَى من المعاناة التي عاناها ديكارت.
اعتُبرت مقارنات ديكارت شائنة تمامًا في البدايات، بسبب حساسيتها الدينية. في الوقت الذي كان يكتب فيه، كان معظم الأطباء يعملون بالتقليد الخلطي. لكن بحلول ذلك الوقت، أصبحت الممارسات الطبية متشابكة بشكل عميق مع المعتقد المسيحي السائد. من الناحية العملية، اعتمد الأطباء بشكل روتيني على التحليل الفلكي للأبراج النجمية لتفسير أمراض معينة أو اختيار العلاج الملائم. رأى هؤلاء الأطباء أن الأساليب العلمية الجديدة في الطب تشكل تهديدًا ليس فقط لسلطتهم الطبية، ولكن أيضًا لنظرتهم الدينية للعالم. في الواقع، في عام ١٦٤٣، بعد عامين من نشر كتابه "تأملات"، اضطر ديكارت إلى الفرار حيث أُدينت فلسفته باعتبارها هرطقة.
لم يعِش ديكارت ليشهد تبنّي المجتمع الفهم الآلي للجسد. توفي عام ١٦٥٠، بعد أن تسمم على ما يبدو بالزرنيخ على يد كاهن كاثوليكي في السويد.[11] من غير المستغرب أن تظل آراء ديكارت مهمشة نسبيًا خلال القرن اللاحق. لكن مع مطلع القرن التاسع عشر، أصبح من الصعب إنكار أن النهج الخلطي لم يكن عتيقًا فحسب، ولكن كثيرًا ما استُخدِم لتبرير علاجات غريبة وغير مفيدة. في أوائل القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، كان هناك إحياء للعلاج بالعلق، حيث استخدِم العلق لامتصاص الدم من أجساد المرضى لاستعادة توازنهم الخلطي. في الواقع، حتى أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر، كانت مستشفى مانشستر الملكية تستخدم قرابة ٥٠٠٠٠ علقة سنويًا، بغض النظر عن فائدتها التي تعود على المرضى.[12]
بالمقابل، فإن الفهم الأكثر آلية للجسد، الذي أصبح مهيمناً في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أسهم ومهد الطريق لظهور الطب الحديث. ومن هنا تطوّر فهمنا المعاصر، ليس فقط لتشريح الجسم ووظائفه، ولكن أيضًا للجراثيم والبكتيريا والفيروسات وأشياء أخرى كثيرة. هكذا ساعد النهج الديكارتي للجسم في تحقيق ثورة في علم الطب.
بالرغم من تحسن فهمنا بشكل كبير، فإن التحول إلى استعارة مفردة الآلة لم يكن نتاجًا حتميًا لا مفر منه للتقدم العلمي. مثل الاستعارات الأخرى المستخدمة في العلوم، كانت نتاجًا للسياق التاريخي والأيديولوجي والتكنولوجي الذي ترسخت فيه تلك الاستعارة. ولفهم هذا، يتعين علينا النظر إلى العوامل المادية والاجتماعية الأوسع التي صاحبت وفاة فرانسين ــ والأهم من ذلك، صعود النظام الاقتصادي الرأسمالي.
انتصار الرأسمالية
أصبح مثل هذا التبني الشامل لاستعارة مفردة الآلة ممكنًا في القرن التاسع عشر بفضل التحول من المجتمع الإقطاعي، إلى الرأسمالية التجارية، وصولًا إلى الرأسمالية الصناعية. في الوقت الذي كان فيه ديكارت ومعاصروه مشغولين بالتنظير حول الجسم والعقل، كانت الأمور قد تغيرت بالفعل. كانت الهيمنة الدولية والتجارة قد تطورت بوتيرة سريعة تتجه نحو تكوين نظام عالمي جديد. استمر هذا التطور بطرق وظروف من شأنها أن تتيح لاقتراح ديكارت المثير أن يصبح مقبولًا عالميًا في جميع أنحاء العالم الرأسمالي.لتوضيح ذلك، دعونا نبدأ بالإقطاع، وهو النظام الاقتصادي الذي ازدهر من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر تقريبًا. في أوروبا، تطور هذا الأمر نتيجة لانهيار الإمبراطورية الرومانية، التي اعتمد نموها بشكل كبير على العبودية. لكن بحلول القرن الرابع، وبسبب ثورات العبيد المتعاقبة، اضطر الملاك إلى منح العبيد السابقين أراضيهم الخاصة للعيش فيها مع عائلاتهم. في الوقت نفسه، كان العمال الزراعيون الأحرار بحاجة إلى اللجوء للوردات المحليين طلبًا للحماية، ولكن للقيام بذلك كان عليهم أن يقسموا واجب الولاء. في حين أن العبودية ما زالت موجودة، في كثير من الحالات يتحول العبيد السابقون والعمال الأحرار إلى فلاحين أو أقنان. يكون بإمكانهم العيش والعمل على أراضيهم الخاصة في العادة، وكذلك الوصول إلى الغابات والمروج والبحيرات "المشتركة"، لكن عليهم أيضًا القيام بواجبات تجاه اللوردات مقابل الحصول على الحماية.
كانت التفاصيل مختلفة دائمًا خارج أوروبا، إلا أننا نجد أنظمة اقتصادية معقدة أخرى تتضمن علاقات إقطاعية وأساليب إنتاج ما قبل الصناعة. على سبيل المثال، عبر أفريقيا كانت هناك أنظمة إقطاعية متنوعة ومعقدة تقوم على إنتاج الموز والماشية ومجموعة من السلع المختلفة. كان لهذه الأنظمة أوجه تشابه كثيرة مع الأنظمة الإقطاعية الأوروبية رغم الاختلافات الدينية والثقافية. كان هناك أيضًا نظام إقطاعي في الصين بدأ بالتدهور خلال فترة الإمبراطور مينغ، مما أدى إلى زيادة البيروقراطية والسيطرة المركزية.
في هذا النظام الاقتصادي كان عدد السكان صغيرًا ومستويات الإنتاج منخفضة. كان معظم الناس يعملون من منازلهم أو في أراضيهم، ولا ينتجون سوى القليل مما يحتاجون إليه للبقاء على قيد الحياة. بدلاً من تحديد مواعيد نهائية أو حصص إنتاج، عملوا معاً كوحدات عائلية تنتج كل ما هو ضروري للاكتفاء الذاتي. في هذا السياق، كان العجز والأمراض المزمنة أكثر احتواءً في الحياة اليومية. لم يكن هذا بسبب محدودية التكنولوجيا الطبية، أو بسبب وجود عدد قليل جدًا من المستشفيات، التي كانت آنذاك ملاذًا للمصابين بالجذام فقط. كانت بيئة العمل أبطأ وأكثر مرونة وأكثر استقلالية. عمل الفلاحون لساعات أقل وحصلوا على فترات راحة أطول من أولئك الذين عملوا بعد الثورة الصناعية. علاوة على ذلك، عملت الأسر والمجتمعات في كثير من الأحيان من المنزل كوحدة متكاتفة، مما سمح بتقسيم العمل بشكل أكثر مرونة.
عندما يتعلق الأمر بالإعاقة، فإن هذا أمر مهم لأنه يعني أن الأشخاص الذين يعانون نطاقاً أوسع من الإعاقات يمكن إدراجهم ــ ولا بدّ من ذلك في كثير من الأحيان ــ ضمن وحدات أسرية أو مجتمعات أوسع. على سبيل المثال، قد تكون الجدة الصماء أو العمياء لا تزال قادرة على الحياكة أو الطهي، وقد يكون الرجل ذو الإعاقة الإدراكية قادرًا على العمل في الحقول أو المشاركة في التصنيع، ويمكن للأشخاص الذين يعانون إعاقات حركية العمل من المنزل. في تلك الفترة، حيث عمل الناس مع المجتمعات المحلية وحسب المواسم، كان من المنطقي التفكير في الصحة باعتبارها انسجامًا بين العوامل المختلفة. يشمل هذا انسجام المجتمعات، وهو ما يتطلب قبول نطاق أوسع من طرق العمل مقارنة بما كان مقبولًا في العصر الصناعي.
بدأ كل هذا يتغير مع ظهور الرأسمالية. جزئيًا، ظهر التحول إلى الرأسمالية في سياق المفاهيم الإقطاعية للمُلكية، التي أصبحت تدريجيًا تتشكّل أثناء تطور التجارة عبر سوق أكثر عالمية. احتاجت الدول في هذه الفترة إلى تحديد عدد السكان وأصولهم لجمع الضرائب، لاسيما عقب الصراعات بين الفلاحين واللوردات التي سمحت لعدد أكبر من الفلاحين بامتلاك أراضيهم وزراعة غذائهم. بعد وباء الطاعون الأسود Black Death في أوروبا، الذي أودى بحياة ثلث سكان القارة في القرن الثالث عشر، تمكن العمال أيضًا من المطالبة بظروف أفضل، وكثيرًا ما تمردوا مطالبين بذلك. بمرور الوقت، تمكّن بعض مالكي الأراضي من تحقيق أرباح عالية من بيع منتجاتهم، والبدء في تكوين ثروة يمكن إعادة استثمارها.
ظهرت اقتصادات السوق الجديدة وازدهرت التجارة في أنحاء العالم، من إيطاليا إلى الصين، ابتداءً من القرن السادس عشر. أسهم التخصص في بعض الأعمال في تعزيز الإنتاج، ونتيجة لذلك، شهد النمو السكاني طفرة. تطلب كل هذا أشكالًا أكثر صرامة للقياس والتقدير من الدولة، مما أدى توحيد الألقاب العائلية ووضع مقاييس معيارية لتقييم المحاصيل والأرباح مع ازدياد عدد السكان. كما حُدّدت التصنيفات المتعلقة بالقدرة بشكل أكبر، مما أدى إلى التمييز بين الفقراء "المستحقين" والفقراء "غير المستحقين". على سبيل المثال، أعلن قانون الفقراء الإليزابيثي عام ١٦٠١ أن "المبالغ المالية" لمساعدة "المقعدين أو العاجزين أو المسنين أو المكفوفين" يجب أن توفرها الأبرشية، بينما ينبغي إعادة الفقراء القادرين على العمل إلى الصناعة.[13]
عبر أوروبا، كانت العلاقات الاقتصادية الجديدة مدفوعة باستعمار الأوروبيين لأجزاء من أفريقيا في القرن الثاني عشر، ثم للأمريكتين في وقت لاحق. بعد تكوين مفاهيم عرقية مبكرة عن الإيرلنديين والسلاف، كيَّف المستعمرون الأوروبيون هذه المفاهيم لتسويغ الإبادة الجماعية والعبودية للسود والسكان الأصليين.[14] جلب الاستعمار تجارة الرقيق الجديدة التي كانت أكثر وحشية من العبودية في عصر الرومان. نجم عن ذلك نظامًا رأسماليًا عالميًا أكبر، تنافست فيه الدول الأوروبية والتجار والمستكشفون على الاستعمار أو القتل أو الاستعباد أو التجارة مع أفراد من مجتمعات مختلفة عبر العالم. قامت الثورة الصناعية ضمن هذا السياق، مما جعل الظروف مؤاتية تمامًا لتبني اقتراح ديكارت أخيرًا على نطاق أوسع.
الجسد المُنتِج
بفضل هذه القوة الجديدة والنمو المستمر للتجارة، أصبح من الممكن تطوير ابتكارات علمية وتكنولوجية جديدة في أوروبا. من المثير للاهتمام أنه في الوقت الذي اقترح فيه ديكارت تصوره الآلي للجسم، كانت هناك بالفعل عدة ورش تطوّر الآلات في أوروبا، طور فيها العمال المهرة آلات باهظة الثمن ذاتية التشغيل. وفقًا لإحدى الحكايات، بعد وفاة ابنته “صنع ديكارت آلة على شكل فرانسين تستطيع السير والكلام".[15] ربما استلهم ديكارت فكرته الفلسفية من الآلات التي عاصرها، إلا أن الابتكارات التكنولوجية اللاحقة هي التي سمحت بأن يصبح اقتراحه مقبولًا على نطاق واسع.طُوّرت أول مضخة بخارية عام ١٦٩٨ وأول محرك بخاري عام ١٧١٢. كما صُنع المغزل الآلي عام ١٧٦٤، حيث سمَح للعمال بإنتاج عدة بكرات من الخيوط في وقت واحد، بعد ذلك بعقود طُوِّرت ماكينة متعددة المغازل وصُنِع المنسَج. سهلت هذه الاختراعات عمليات الإنتاج، واُستُثمر فيها لتحقيق المزيد من الأرباح. نتيجة لذلك، ازداد الطلب بشكل أكبر على العبيد لإنتاج موادٍ مثل القطن، ناهيك عن سلع أخرى مثل التبغ والسكر والشاي. قُسِّمت تخصصات العمالة، مما سمح بمستويات أكبر من الإنتاجية وأرباح أعلى من أي وقت.
مع تحول الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية، تكونّت الطبقة البرجوازية أو الرأسمالية وهي طبقة أكثر قوة وسلطة من عموم الناس، تنافس سلطة الأمراء والملوك القدامى. امتلكت البرجوازية وسائل الإنتاج، وتمكّنت من استثمار أرباحها ومراكمة المزيد من رأس المال. هكذا أصبحت هذه الطبقة الصغيرة أكثر ثراءً وتأثيرًا. كان الجميع، باستثناء طبقة الأرستقراطيين القُدامى، إما عمالاً أحراراً يبيعون عملهم، أو عمالاً مستعبدين مجبرين على العمل، أو عاطلين عن العمل وبالتالي جزء فائض جديد من السكان. لم يُعترَف بعمل النساء في تلك الفترة، وكن عادة ما يعملن في المنزل بينما يخرج الرجال للعمل. وبما أن الإنجاب والعمل المنزلي بلا أجر، فلم يُنظر إلى ذلك باعتباره عملًا حقيقيًا.[15] أدى هذا النظام المهيمن إلى تفكيك المجتمعات التقليدية وأعاد هيكلة السكان وفقًا لمكانهم في التسلسلات الهرمية الاقتصادية الجديدة على المستويين الوطني والدولي.
عندما يتعلق الأمر بالصحة، كانت آثار الرأسمالية الصناعية عميقة. لم يكن الأمر، كما لاحظ ماركس، أن هذا النظام وآثار العمل المرتبطة به "يبدد البشر والقوى العاملة، بسهولة أكبر من أي نمط إنتاج آخر، ولا يبدد اللحم والدم فحسب، بل يبدد الأعصاب والدماغ أيضًا".[16] ناهيك عن ظروف المعيشة البائسة للعمال المكتظين في قذارة وتلوث المدن الصناعية، وما تتسبب به من أوبئة وأمراض جديدة. ما أريد التأكيد عليه هو أن الرأسمالية حولت الجسم من كيان ديناميكيّ إلى آلة عاملة أو معطّلة. لم يكن الأمر أن الآلات الجديدة كانت جزءًا من الحياة اليومية، مما سهل استخدام مفردة الآلة كاستعارة علمية طبيعية، بل أن نمط الإنتاج بحد ذاته يختزل البشر إلى آلات حية، يُنظر إليها كعاملة أو معطّلة على أساس إمكانيتها الإنتاجية.
في إنجلترا الصناعية، كما أشار فيك فينكلستاين، مع انتشار الآلات الجديدة وتوحيد أيام العمل، أصبحت الصورة النمطية للعامل المثالي موحّدة كذلك. احتاج العمال إلى أن يكونوا قادرين على الحركة والانتقال ليتمكنوا من السفر إلى المصنع. كما توجّب عليهم العمل بما يتماشى مع وتيرة ومعايير الإنتاج في أماكن العمل الصناعية. كانت زيادة الإنتاج الغذائي تعني التوسع السكاني بالضرورة. بمرور الوقت، كانت هناك أعداد فائضة من الأيدي العاملة التي توجب عليها التنافس فيما بينها للحصول على عمل. لا يمكن لعمال المصانع الإنجليز، كما كتب فينكلستاين، "أن يعانوا أي إعاقة قد تمنعهم من تشغيل الآلة". لذا، حددت الضرورة الاقتصادية لصناعة آلات منتجة القدرة الجسدية كمعيار في إنجلترا الصناعية. [17]
هذا لا يعني أن الإعاقة كانت مرادفة لعدم القدرة على العمل في المصانع. في دراستهما لعمال مناجم الفحم البريطانيين المعاقين في إنجلترا الصناعية، يؤكد المؤرخان تورنر وبلاكي على كيفية تغير "ديناميكيات الإدماج والاستبعاد داخل مجموعات أو مهن معينة، وفي بيئات مختلفة".[18]
يزداد عدد ذوي الإعاقة في حالة تعدين الفحم، بالرغم من وجود عقبات وأشكال محددة من التمييز، إلا أنهم ضمن القوى العاملة. نلحظ هنا وجود نمطٍ أكثر عمومية، حيث يُضمّن ذوي الإعاقة وغيرهم من أفراد الطبقة الفائضة، متى ما كانت هناك حاجة إليهم أو أمكن استغلالهم لتحقيق الربح. كما نرى وجود نوع من المرونة في الانتقال من الطبقة العاملة إلى الطبقة الفائضة أو العكس، اعتمادًا على احتياجات رأس المال المتغيرة.
نشهد وضعًا أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى العبيد السود. كان العبيد يُباعون في أسواق العبيد، ولذلك حُوّلت أجسادهم وعقولهم إلى سلع بطرق لم يتعرض لها العمال الآخرين. كما أوضحت ستيفاني هانت كينيدي بالتفصيل، نظرًا لعدم حصولهم على أجورهم، كان يُطلب من عبيد المزارع في كثير من الأحيان العمل بالرغم من كون العديد منهم معاقين؛ نتيجة لتعرضهم لإصابات ناجمة عن المعاملة المروعة على أيدي تجار العبيد. علاوة على ذلك، حُدِّدت "قيمة" العمال المستعبدين بناءً على "قيمة إعادة بيعهم في السوق المفتوحة، بالإضافة إلى إنتاجهم الفردي كعمال".[19] ولأن العنصرية كانت متجذرة في أصول الرأسمالية، تعرّض ملايين العمال المستعبدين لتسليع مضاعف، بطريقة أسوأ بكثير من استغلال العمال البيض في أوروبا.
يظهر بحث أجرته كيتلين روزنتال، أن أصحاب المزارع في الجنوب الأمريكي رسخوا إدارة العمال المستعبدين بطريقة علمية. قاموا بذلك، كما كتبت، من خلال "الاهتمام الشديد بكفاءة الرجال والنساء المستعبدين في قطف القطن، وكثيرًا ما قاموا بتجارب مختلفة لتعظيم الإنتاج إلى أقصى حد"، وتسجيل وتحليل "البيانات بشكل دؤوب ودقيق، والحفاظ على الحسابات ومقارنتها عام بعد عام". [20] كان العمال المستعبَدون أول من دُرس بطريقة علمية، وتعرضوا للتلاعب من أجل رفع الإنتاجية وخدمة رأس المال. هذا النوع من الإدارة العلمية هو ما مهد الطريق لتلك الأساليب التي ستتوسّع لاحقًا لتشمل جميع العمال بعد حظر تجارة الرقيق، ثم العبودية لاحقًا.
بينما تعتمد الظروف على السياق، بات الجسم ذاته، بما في ذلك العقل، يُقيم كونه يعمل أم معطّل اعتمادًا على إنتاجية الفرد الفعلية أو المتخيّلة في كافة أنحاء العالم الرأسمالي. ولعل مقارنة إنتاجية فرد مع البقية تُشجع نموذجاً تنافسياً بينهم. هكذا أصبحت الإنتاجية الفردية تُلاحظ وتُوثق وتُصنف وتُقيَّم بشكل متزايد.
خلال هذه الفترة، استمرت المخاوف بشأن المُتَمارضين -الأشخاص الذين تظاهروا بالمرض لتجنب العمل- في التزايد. تحسنت الممارسات الحكومية لتقييم وتمييز الفقراء العاطلين عن المعاقين. حتى عام ١٦٩٧، على سبيل المثال، فرض قانون الشارات على كل من يعتمد على معونة الأبرشية ارتداء شارة تشير إلى أحرُفه الأولى وحالته كمحتاج. تبنت التشريعات بعد ذلك الإعاقة كتصنيف يتطلّب تدخل الدولة، كما سنعود للحديث عنها في الفصل التالي.
مع أنها اُعتبرت هرطقة في البداية، أصبحت اقتراحات ديكارت تحظى بقبول واسع ليس لأنها أفادت الطب، بل كانت مفيدة بشكل كبير لرأس المال أيضًا. بحلول القرن التاسع عشر، أصبح الصناعيون وأصحاب المزارع وغيرهم من الرأسماليين ينظرون إلى عمّالهم كآلات فردية إما عاملة وإمّا عاطلة. كانت احتياجات الرأسماليين ما يحدّد ما هو مقبول في المقام الأول، أكثر من نصوص الكنيسة.
لذا وكما لاحظ كارل ماركس، ربما للمرة الأولى عام ١٨٦٧، فإن الرأسمالية لم تجلب آلات جديدة فقط، ولكن جلبت أيضًا تحويلًا "مصنعيًا" للبشر إلى "مجرد آلات لإنتاج فائض القيمة surplus value." وكما سنرى في الفصل التالي، حلَّ المفهوم الإحصائي "للحالة السوية" القائم على المعايير الجديدة للأداء الآلي (الميكانيكي) محلّ المفهوم التقليدي للتوازن عندما يتعلق الأمر بفهم الصحة.[21]
نشهد وضعًا أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى العبيد السود. كان العبيد يُباعون في أسواق العبيد، ولذلك حُوّلت أجسادهم وعقولهم إلى سلع بطرق لم يتعرض لها العمال الآخرين. كما أوضحت ستيفاني هانت كينيدي بالتفصيل، نظرًا لعدم حصولهم على أجورهم، كان يُطلب من عبيد المزارع في كثير من الأحيان العمل بالرغم من كون العديد منهم معاقين؛ نتيجة لتعرضهم لإصابات ناجمة عن المعاملة المروعة على أيدي تجار العبيد. علاوة على ذلك، حُدِّدت "قيمة" العمال المستعبدين بناءً على "قيمة إعادة بيعهم في السوق المفتوحة، بالإضافة إلى إنتاجهم الفردي كعمال".[19] ولأن العنصرية كانت متجذرة في أصول الرأسمالية، تعرّض ملايين العمال المستعبدين لتسليع مضاعف، بطريقة أسوأ بكثير من استغلال العمال البيض في أوروبا.
يظهر بحث أجرته كيتلين روزنتال، أن أصحاب المزارع في الجنوب الأمريكي رسخوا إدارة العمال المستعبدين بطريقة علمية. قاموا بذلك، كما كتبت، من خلال "الاهتمام الشديد بكفاءة الرجال والنساء المستعبدين في قطف القطن، وكثيرًا ما قاموا بتجارب مختلفة لتعظيم الإنتاج إلى أقصى حد"، وتسجيل وتحليل "البيانات بشكل دؤوب ودقيق، والحفاظ على الحسابات ومقارنتها عام بعد عام". [20] كان العمال المستعبَدون أول من دُرس بطريقة علمية، وتعرضوا للتلاعب من أجل رفع الإنتاجية وخدمة رأس المال. هذا النوع من الإدارة العلمية هو ما مهد الطريق لتلك الأساليب التي ستتوسّع لاحقًا لتشمل جميع العمال بعد حظر تجارة الرقيق، ثم العبودية لاحقًا.
بينما تعتمد الظروف على السياق، بات الجسم ذاته، بما في ذلك العقل، يُقيم كونه يعمل أم معطّل اعتمادًا على إنتاجية الفرد الفعلية أو المتخيّلة في كافة أنحاء العالم الرأسمالي. ولعل مقارنة إنتاجية فرد مع البقية تُشجع نموذجاً تنافسياً بينهم. هكذا أصبحت الإنتاجية الفردية تُلاحظ وتُوثق وتُصنف وتُقيَّم بشكل متزايد.
خلال هذه الفترة، استمرت المخاوف بشأن المُتَمارضين -الأشخاص الذين تظاهروا بالمرض لتجنب العمل- في التزايد. تحسنت الممارسات الحكومية لتقييم وتمييز الفقراء العاطلين عن المعاقين. حتى عام ١٦٩٧، على سبيل المثال، فرض قانون الشارات على كل من يعتمد على معونة الأبرشية ارتداء شارة تشير إلى أحرُفه الأولى وحالته كمحتاج. تبنت التشريعات بعد ذلك الإعاقة كتصنيف يتطلّب تدخل الدولة، كما سنعود للحديث عنها في الفصل التالي.
مع أنها اُعتبرت هرطقة في البداية، أصبحت اقتراحات ديكارت تحظى بقبول واسع ليس لأنها أفادت الطب، بل كانت مفيدة بشكل كبير لرأس المال أيضًا. بحلول القرن التاسع عشر، أصبح الصناعيون وأصحاب المزارع وغيرهم من الرأسماليين ينظرون إلى عمّالهم كآلات فردية إما عاملة وإمّا عاطلة. كانت احتياجات الرأسماليين ما يحدّد ما هو مقبول في المقام الأول، أكثر من نصوص الكنيسة.
لذا وكما لاحظ كارل ماركس، ربما للمرة الأولى عام ١٨٦٧، فإن الرأسمالية لم تجلب آلات جديدة فقط، ولكن جلبت أيضًا تحويلًا "مصنعيًا" للبشر إلى "مجرد آلات لإنتاج فائض القيمة surplus value." وكما سنرى في الفصل التالي، حلَّ المفهوم الإحصائي "للحالة السوية" القائم على المعايير الجديدة للأداء الآلي (الميكانيكي) محلّ المفهوم التقليدي للتوازن عندما يتعلق الأمر بفهم الصحة.[21]
-----------------------------------------
الفصل الأول من كتاب «الإمبراطورية السوية، التنوع العصبي والرأسمالية» روبرت تشابمان، ترجمة د. شريف بقنهز يصدر عن دار رشم للنشر والتوزيع، ٢٠٢٥
المراجع
[1] Debby Sneed. ‘The Architecture of
Access: Ramps at Ancient Greek Healing Sanctuaries’. Antiquity 94, no. 376
(August 2020): 1015–1029. https://doi.org/10.15184/aqy.2020.123
[2] Plato. Phaedrus. Translated by
Alexander Nehamas and Paul Woodruff. Indianapolis: Hackett, 1995
[3] Hippocrates. Hippocratic
Writings. Translated by G. E. R. Lloyd, John Chadwick, and W. N. Mann.
Harmondsworth: Penguin, 1984, 339
[4] كما اعترفوا أيضًا بالهستيريا، لكن وفقًا
للاعتقادات السابقة، اعتبروا أنها لا تنبع من أمراض عصبية، بل عن
"تجوّل" الرحم داخل الجسم مما يخل بتوازنه العام. وعلى الرغم من عدم
وجود اضطهاد منهجي لذوي الإعاقة ككل، فإننا نرى هنا مثالًا مبكرًا على الاضطهاد
الأبوي من خلال التشخيص، حيث اعتُبِر ووُصِف الزواج والجماع المنتظم للنساء كعلاج
"للرحم المتجول".
[5] Simon Raper. ‘The Shock of the
Mean’. Significance 14, no. 6 (2017): 12.
https://doi.org/10.1111/j.1740-9713.2017.01087.x
[6] Andrew Scull. Madness in Civilization: A Cultural History of Insanity,
from the Bible to Freud, from the Madhouse to Modern Medicine. Princeton:
Princeton University Press, 2016, 28.
[7]Scull, Madness in Civilization, 28.
[8] Sheldon Watts. Disease and Medicine in World History. London: Routledge,
2003.
[9] Alexus McLeod. ‘Chinese Philosophy has Long
Known that Mental Health is Communal’. Psyche, 1 June 2020.
https://psyche.co/ideas/chinese-philosophy-has-long-known-that-mental-health-iscommunal[10] René Descartes. Meditations on
First Philosophy with Selections from the Objections and Replies. Translated by
Michael Moriarty. Oxford: Oxford University Press, 2008, 60.
[11] Theodor Ebert. ‘Did Descartes Die
of Poisoning?’ Early Science and Medicine 24, 2 (2019): 142–185,
https://doi.org/10.1163/15733823-00242P02
[12] William Brockbank. Portrait of a
Hospital, 1752–1948 to Commemorate the Bi-Centenary of the Royal Infirmary,
Manchester. London: William Heinemann, 1952, 73.
[13] Elizabeth I. ‘An Act for the
Relief of the Poor’. 1601. www.workhouses.org.uk/poorlaws/1601act.shtml
[14] Buluda Itandala. ‘Feudalism in
East Africa’. Utafiti: Journal of the Faculty of Arts and Social Sciences 8,
no. 2 (1986): 29–42.
[15] Stephen Cave, and Kanta Dihal. ‘Ancient Dreams
of Intelligent Machines: 3,000 Years of Robots’. Nature: Books and Arts, 25
July 2018.
www.nature.com[15] Silvia Federici. Caliban and the
Witch: Women, the Body and Primitive Accumulation. New York: Autonomedia, 2004.
[16] Karl Marx. Capital: A Critique of
Political Economy, Volume III. Translated by Ben Fowkes and David Fernbach.
London: Penguin,1990, 182.
[17] Vic Finkelstein. ‘Disability and the
Helper/Helped Relationship’. In Handicap in a Social World, edited by Ann
Brechin, Penny Liddiard, and John Swain. Sevenoaks: Hodder & Stoughton,
1981, 3. Reprinted at
https://disability-studies.leeds.ac.uk/wp-content/uploads/sites/40/library/finkelstein-Helper-Helped-Relationship.pdf[18] David M. Turner, and Daniel
Blackie. Disability in the Industrial Revolution: Physical Impairment in
British Coalmining, 1780–1880. Manchester: Manchester University Press, 2018,
7.
[19] Stefanie Hunt-Kennedy. ‘Unfree
Labor and Industrial Capital: Fitness, Disability, and Worth’. In Between
Fitness and Death, 80–85. Champaign: University of Illinois Press, 2020.
https://doi.org/10.5622/illinois/9780252043192.003.0004
[20] Caitlin Rosenthal. ‘Slavery’s
Scientific Management’. In Slavery’s Capitalism, edited by Seth Rockman and
Sven Beckert, 62–86. Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2016, 62
[21] Karl Marx. Capital: A Critique of
Political Economy, Volume I. Translated by Ben Fowkes. London: Penguin Books,
1990, 523.