
صعود الآلات
تجري أحداث أهم أجزاء قصتنا منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولكن من المفيد أن نبدأ بسرد أكثر شمولاً يوفر سياقًا أوسع. أحد أهم الاستفهامات يتعلق بكيف أدى التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية إلى تغير جوهري في كيفية تصور الصحة.يبدأ الفصل بإلقاء نظرة سريعة على كيفية فهم الصحة كشكل من أشكال الانسجام في اليونان القديمة وأماكن أخرى في العالم القديم، واستمر ذلك حتى القرن السابع عشر على الأقل. انتقل بعد ذلك إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي أعد عمله رمزًا لتحوّل أوسع في الفكر التنويري حول الجسم والصحة. بالنسبة لديكارت، أُعيد تصور الجسم باعتباره آلة. من هذا المنظور، لم تعد الصحة مسألة انسجام، بل أصبحت آلية عمل لابد وأن تعمل بشكل صحيح. أخيرًا، انتقل إلى صعود الرأسمالية والثورة الصناعية. أوضح أنه، وبعيدًا عن كونه تطورًا علميًا لا مفرّ منه، أصبح تصوّر الجسم كآلة مقبولًا على نطاق واسع لأنه ساعد في تطبيع التسلسلات الهرمية الجديدة التي انبثقت من الرأسمالية. هذه النظرة الشاملة، التي توضح كيف أدخلت الرأسمالية مفهومًا جديدًا وعلمًا متوافقًا عن الصحة، ستسهم في تمهيد الطريق للفصول التالية التي تناقش صعود النموذج المرضي.
الصحة كانسجام
كان زمن أبقراط هو العالم الكلاسيكي للمدن اليونانية حيث دارت معارك شهيرة، وألّف الشعراء العظماء ملاحمهم، وتجادل سقراط مع مواطنيه في سوق أثينا. بسبب بساطة الطب في تلك الفترة، أصبحت الأمراض المزمنة والإعاقة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، ولم يكن هناك فصل أو تمييز للإعاقة يشبه ما حدث لاحقًا. تُظهر الأدلة الأثرية، على سبيل المثال، أن المعابد احتوت على سطوح مائلة لتسهيل وصول ذوي الإعاقة الحركية [1]. مع ذلك، كان هناك تمييز ضد ذوي الإعاقة؛ ومن ذلك الاعتقاد السائد بأن المرض عقاب - أو في بعض الأحيان هدية - من الآلهة. يرجع تاريخ هذا "النموذج الأخلاقي" للإعاقة إلى مصر القديمة، حيث يقوم السحرة الأطباء بطرد الأرواح الشريرة إلى جانب توفير التدخل الطبي اللازم.ولد أبقراط العام٤٦٠ قبل الميلاد تقريبًا في جزيرة كوس، قبالة سواحل تركيا. تعلم أولًا على يد والده، الطبيب هيراكليدس. بعد أن تعلم كلّ ما لدى والده، جاب أبقراط أنحاء واسعة لتعلّم المزيد عن الطب. في حين لا يُعرف سوى القليل على وجه اليقين عن أسفاره أو حياته اللاحقة، إلا أننا نعرف من معاصره أفلاطون أن أبقراط عاد إلى كوس وأصبح مشهورًا بعمله الطبي وتعاليمه. [2]
نعلم أيضًا أن عددًا كبيرًا من النصوص، المعروفة باسم كوربوس أبقراط Hippocratic Corpus، لا تزال موجودة. كتبها أبقراط أو أتباعه. من هنا يتضح إرث التقليد الأبقراطي؛ في حين كان يُنظر إلى المرض تقليديًا من خلال عدسة دينية فهم الأبقراطيون المرض بطريقة طبيعية كمشكلات في الجسم أو العقل. كما كانوا روادًا في طرق الملاحظة والتوثيق وطوروا أنظمة تشخيصية معقدة لتفسير وعلاج الأمراض.
مع مرور الزمن، أصبح العاملون في هذا التقليد قادرين على علاج الجروح الملوثة وطوروا أدوات وتدخلات جراحية مهمة، وفهموا أهمية التغذية السليمة للجسم. اعتبروا أيضًا أن الدماغ، على حد تعبير أحد نصوص أبقراط "مقر الجنون والهذيان، والمخاوف والأهوال التي تباغتنا"[3]. عندما يتعلق الأمر بالأمراض العصبية فقد ميزوا بين الهوس والكآبة والجنون والصرع بأساليب لا تختلف كثيرًا عما جاء في أعمال الأطباء النفسيين الأوائل بعد أكثر من ألفي عام.[4] هنا شهدنا لأول مرة الاعتراف بحالات عصبية محددة بدلًا من الفكرة التي تنسب الجنون إلى آلهة خبيثة أو غاضبة.
لكن هنا أيضًا تنتهي التشابهات مع الطب المعاصر. الاختلاف الأهم هو أن مفهومهم للصحة يختلف تمامًا عن المفاهيم التي لحقتهم. في يومنا هذا تُفهم الإعاقة في سياق علاقتها بالحالة السوية والمفاهيم الإحصائية. لم يكن مثل هذا المفهوم متداولًا في العالم القديم. في حين أن الفيثاغوريين طوروا مفهوم "المتوسّط" الحسابي قبل وقت قصير من ولادة أبقراط إلا أن هذا المفهوم كان مجردًا إلى حدٍّ كبير. كما كتب سايمون رابر "يذكر الفيثاغوريون المتوسط الحسابي في سياق الموسيقى والتناسب إلى جانب المتوسط الهندسي والتوافقي ولم يقترحوا استخدامه لتلخيص البيانات"[5]. من ثم فإن فكرة الأداء الوظيفي "الطبيعي" - أو بشكل أكثر تحديدًا معدل ضربات القلب الطبيعي وقدرة الرئة الطبيعية والطول الطبيعي والقدرة الإدراكية الطبيعية وما إلى ذلك - ستكون غريبة تمامًا على أطباء العصور القديمة.
عرّف الأبقراطيون المرض على أنه اضطراب في الانسجام الجسدي أو التوازن أو الاستقرار. يتمثّل توازن الصحة فيما اعتبروه الروابط الأساسية الأربعة أو "الأخلاط humours" وهي الدم والبلغم، والعصارة الصفراء والعصارة السوداء. من هذا المنطلق كما يلخص المؤرخ أندرو سكل "يتكون كل واحد منا من أربعة عناصر أساسية تتنافس على التفوق" بطرق يمكن أن تؤدي إلى توازنها بشكل أكبر أو أقل. [6] إذا كانت هذه العناصر متوازنة، فإن الجسم يكون سليمًا، وتنتج أمراض مختلفة من أشكال مختلفة من الاختلال.
بالمثل، يمكن اعتبار الصحة كحالة من التناغم والانسجام بين الفرد والبيئة المحيطة به. على سبيل المثال، تتغير هيمنة الأخلاط المختلفة بتغير المواسم، مما يؤدي إلى تغيّر الأمراض. اقترح الأبقراطيون أيضًا أن الوظائف العصبية يمكن أن تتأثر بتغيرات الطقس. فمثلًا، -كما يفترض أحد النصوص-، فإن "الرياح الجنوبية" يمكن أن "تبعث الراحة إلى الدماغ" وأوعيته الدموية، بينما "ستجمّد" الرياح الشمالية أجزاء من الدماغ، وتجلب كل ظاهرة معها تأثيرات إدراكية مختلفة.[7] إذا كان شخص ما مريضًا، يُنظر إلى مرضه باعتباره علامة على وجود نقص في توازن وانسجام الأخلاط أو انعدام في التناغم بين الفرد والبيئة، وتُفسّر المشكلات الطبية بملاحظة أنماط عدم التوازن.
في حين أن تركيزنا سيكون على المفاهيم الغربية للصحة، فمن اللافت ملاحظة أن مفاهيم التوازن للصحة البدنية والعقلية يمكن رؤيتها أيضًا في مجموعة من الفلسفات الطبية التقليدية على الصعيد العالمي. تشمل هذه التقاليد الأيورفيدية Ayurvedic tradition في الهند، والطب الصيني القديم، والطب المصري القديم، والتقاليد الطبية الشفهية للإنكا.[8] من المؤكد أن كلًّا من هذه التقاليد تختلف في مجموعة من التعقيدات والفروق الدقيقة، ولم يستخدم أيّ منها المفهوم الأبقراطي لـ "الأخلاط". مع ذلك، فقد نظروا إلى الصحة على أنها، -بمعنى أو بآخر-، مسألة انسجام أو توازن داخل الفرد، أو بين الفرد والبيئة والمجتمع. على سبيل المثال، حسبما نقل أليكسوس ماكلويد، اعتقد أولئك الذين ينتمون إلى التقليد الكونفوشيوسي القديم في الصين أنه "إذا كنا في مجتمعات سيئة أو شريرة أو غير صحية، ستضطرب معتقداتنا وعواطفنا وتوقعاتنا ومواقفنا (من بين أمور أخرى) بطرق خطيرة.[9]" .
وهكذا، في جميع أنحاء العالم القديم، لم يكن المرض يعني وجود خلل ميكانيكي، ولكن انعداماً للتوازن في الذات أو مع البيئة أو الآخرين. بعيدًا عن كونها مقتصرة على العصور القديمة، استمرت هذه التقاليد حتى وقت قريب جدًا. على سبيل المثال، تطور تقليد الأخلاط في روما القديمة من خلال أعمال جالينوس، وخلال العصر الذهبي الإسلامي على يد ابن سينا، من ثم عبر أوروبا في العصور الوسطى. على نحو مماثل، انتشرت تقاليد التوازن القديمة الأخرى على مستوى العالم، واستمرت حتى العصر الحديث. ظلت المعادلة الأساسية بين الصحة والانسجام، والمرض وعدم التوازن سائدة حتى عصر الاستعمار، وعصر التنوير، والأهم من ذلك، حتى صعود الرأسمالية.