11 أبريل 2024

مكانٌ شِبه عادي - شريف بُقنه

١
في مكانٍ شبهِ عاديّ
تلتقي بك طفلًا هائمًا بحاجة البكاء، 
تذوبُ في أثيرِ الوقتِ
في هذا الزّلال السَّائح
تسألُ الفراغَ عن كنهِهِ ولونهِ وغايتِهِ.
كيف ابتلعك، وإلى أين يأخذك، ولماذا عليك 
أنْ تقفَ أعزلَ في مواجهةِ العدَمِ وتتوسمَ الخيرَ مِن حولِك؟
فيخبرُك عن طيورٍ تحمي أعشاشَها في أعالي الجبال 
وكائناتٍ مِجهريةٍ تقبعُ مستعمراتُها في قِيعانِ المحيط 
يرسمُ لك دورةَ الماءِ والغيمِ والظِّل 
ويفسّرُ قوةَ الطّردِ المركزيِّ للأجرامِ
يقضي بعدالةِ الحربِ، وعشوائيةِ النّكباتِ 
ومجانيةِ الصُّدفِ والمسرّاتِ 
يخاطبُ جدليةَ الإرادةِ الحرة 
وأصالةَ الوجودِ، وأزليةَ الآلهةِ. 
أخيرًا 
يعرضُ عليكَ الفوزَ بالعادي المتاحِ
والاحتفاءَ بالعيشِ 
رغبةً مهدورةً بين أضلاعِك 
 لا تتشبثُ سوى في البقاء. 

٢
كيف تقبضُ على المعنى وأنتَ 
تطرقُ "الأبوابَ منَ الداخلِ" 
تتشبّثُ في المُطلقِ طويلًا
تظنُّ أنّك تفكُّ شفرةَ الغيْب، 
وكلُّ ما تفعلُه وما تظنُّ أنك فعلتَهُ 
شتاتٌ لرُوحِك وبطولةٌ في نفسِك، 
ثمةَ حتميةٌ تبشمُ بجبروتِها على قرارِك 
تسقطُ بظلالِها الفرسخيةِ على نورِ تصوراتِك 
"الأمرُ الواقعُ مذبحُ الإرادة"*.

شريف بُقنه


_______________
*اقتباس لنيتشه

أفيونُ السّعادة - شريف بقنه

١
نغمّي أعيننا الشاخصة، نتوسّل 
أحلامًا قادمة ومنىً مشتهاة
ونهاراتٍ نستجدي فيها عطايا السماء. 
نغضّ الطّرف عن سرّنا الكبير
"ما أوجع أن نكون أنفسنا! 
ما أضنى أن نبقى وحيدين!" 
نكظمُ خلجاتَنا المكبوتة ونحيبنا اليائس
نؤجّل أسئلةَ الليل ومآزقَنا الوجودية
لتغشانا لحظةُ النشوةِ الموغلة
نبتسمُ ملء شدقينا، سُذّجًا كسالى 
دهاةً وأذكياء، ندفعُ الوقت 
بابتسار اللذة. 

٢
سلبَ الانتحارُ أرواحًا حيارى
وتولّى الشرابُ والشيطان البقية* ، 
شربَتنا السعادة وأدمنّا أفيونها 
لذةٌ، شهوةٌ، شهرةٌ، ثروةٌ وفجور.
نكثت اليوتوبيا وعدَها ومن حينها 
نذرنا عداوةَ أنفسنا ودوزنّا 
لحنَ الشقاء، سفكنا دمَ الحواس 
على أسفلت المُدُن وهرْوَلنا
مهووسين، مُسبّحين بالمتعة 
ومضحّين بقربان النّزوات. 

٣
 شربتنا السعادة ولن ترتوي، 
 تظل تشربُنا لنظمأ ونمعن 
النّظَر في القشور،
نزدري كُنهَ المعنى! 
ونهدم برج التفاسير.


شريف بقنه

_______________
* "أخذ الانتحار الكثير. تولى الشراب والشيطان البقيّه" روبرت لويس ستيفنسون

08 أبريل 2024

بيانو - إدغار كونز

جمعتُ ما انكسَر منه
بقدر ما استطعت؛ قالت

لكنّه توقف عن العمل،
توقّف عن المُضي قدُمًا.

كان كما ورقة المنديل
تتمزق على صفحة الماء.

كما الدخان يضيع في
قبضتي، الأمر لا يتعلّق بك

يا حبيبي. رحلت عندما
كان عليك الرحيل.

قابلتُ امرأةً ذات مرةٍ
تعمل عازفةً للبيانو.

قالت أنه عملٌ صعب.
الأدوات، الخطوات والتأثير.

الأذنُ المطلوبة. إلا أنني أحبه،
أردفت، إلا أنه عملٌ وحشي.

بمجرد ما ابتعد عنه ولو للحظات
يخرج كل شيءٍ عن النوتة.

____________
 ترجمة شريف بقنه 
* إدغار كونز Edgar Kunz شاعر أمريكي معاصر. أصدر مجموعة شعرية العام ٢٠١٩، نشر في العديد من المجلات المرموقة أمثال ذا نيويوركر، نيو انجلند ريفيو وناريتيف. حصل على زمالات وجوائز من الصندوق الوطني للفنون، ومجلس ولاية ماريلاند للفنون وجامعة ستانفورد وغيرها.
"Piano” Edgar Kunz from The New Yorker, October 31, 2022

04 أبريل 2024

حافةُ الغابة - شريف بقنه

يعودُ لحجرتِهِ في المساءِ،
يعودُ منَ المدينةِ الهائلةِ.
لا يكتفي بخلعِ قميصِهِ الرسمي،
بل يخلعُ عن رُوحِهِ أرديةً عديدةً
يخلعُ البسماتِ المتكلّفةَ، والنظراتِ الحذرةَ
الجدّيةَ المُفتعلةَ، والإشاراتِ الشاردةَ
ينفضُ قشورَ التملّقِ، وينزعُ جلدَ التزلُّفِ
يُعلّقُهُ على شمَّاعتَهِ.
كم رداءٍ عليهِ أنْ يخلعَ ليلتقيَ بنفسِهِ؟
كم رداءٍ يرتدي من أجلِهم كلَّ نهارٍ!
أرهقتْهُ المدينةُ الهائلةُ، وطوّقتْهُ
من قبْل أسوارُ عزلته.

كان قدِ اختارَ عزلةً تشبهُ حياةَ النُّسَّاكِ،
لكنْ ضلَّ الطريقَ، وعلِقَ في حافةِ الغابة
حبستْهُ نفسُه، وتشابكتْ أمامَهُ أغصانُهَا.
وجدَ أنَّهُ أكثرَ تعقيدًا من أن يُخضعَ نفسَهُ!
وجد تربةً قاتمةً غائرةً في صميمِ ذاتِه
معادنُ نبيلةٌ وبراثنُ سامةٌ وكمائنُ.
فآثرَ الفرارَ صوبَ المدينةِ الهائلةِ
ملتمسًا الصُلحَ البائنَ،
بيْدَ أنَّ المدينةَ مسرحٌ مكتظٌّ بالأقنعةِ
والجميعُ ممثلون.

هكذا يرتدي أدوارَهُ كلَّ صباحٍ
يستنزفُهُ اللثامُ وتسحقُهُ المادة.
يصعدُ قطارَ الحضارةِ مشمّرًا
مقتحمًا القرنَ الواحدَ والعشرين.

14 مارس 2024

رصاصُ الزمن - شريف بقنه

نشرت في مجلة اليمامة ٢٠٢٤/٢/١٥

١
تخليْنا عن أسئلةٍ عديدةٍ
وظلَّت بلا جوابٍ، تصالحْنا معها.
زهدنا عن أوهامٍ أخذتنا لحافةُ 
الرؤيا حتى ذبلت في ذواتِنا، 
وأهملنا حبلَ أحلامِنا الممتدَّ
منذُ أولِ يومٍ تسابقنا في  
ساحةِ المدرسة، منذُ أولِ 
لثغةٍ نطقَت بأمنياتنا.
ركضنا في لوثةِ الأيام
مسروقين مستلبين 
تسقطُ على أيدينا 
الدَّقائقُ والساعاتُ تباعًا 
تلقَى حتفَها برصاصِ الزَّمن.
حسِبنا السَّعادةَ مضيعةً للوقت
والطمأنينةَ مقبرةً وفخًّا، 
 لم نلتفتْ لخفَّتِنا ولا لطَيْشنا  
وأذعنَّا للرَّغبةِ والنَّزوةِ والشَّره.
بدّلنَا أجسادنَا مكائنَ نهمةٍ
تنهشُ الدَّربَ وتجترُّ الأجلَ.

 ٢
لا شيءَ أرضيٌّ في مدينتنا
خدَّرتْنا المدينةُ وحبستْنَا 
في أبراجٍ زجاجيةٍ، أزهقتْ 
أيامَنا في دوامةٍ فاسدةٍ 
يفوحُ منها الأرقُ والعرقُ 
وعوادمُ السّياراتِ.
كأنَّ المعنَى هامشٌ مؤجلٌ
والمتنَ حياةٌ نموتُها
نقطعُها ولا نعيشُها.
يا لها من جسارةٍ 
صمودنا في البقاء
كلُّ مرةٍ تتشظى أرواحُنا 
في ماديّةِ هذا العالَم.



08 سبتمبر 2023

رفقة هايدجر، معية باتيرسون - شريف بُقْنه

"Gathered" George dawnay
«كان ميّتًا! وعرضوا عليه الحياة مرة أخرى»  
 
أيُّ حياةٍ تلك التي تستحقُ التّكرار؟ 
هل دُفنتُ دونَ أن أدري مع موتى تي اس إيليوت في الأرضِ الخراب، حلمتُ بطفولتي واستجديت زخّةَ الخلاصِ من سماء عذرية زرقاء، هل رأيتُ الخوفَ في" حفنةٍ من تراب" وبُعثتُ من جديد! 
أيُّ معنًى مجيدٌ في حياتي السابقةِ يستحقُ التكرار!  
أبحث عن المعنى لأدلّ الطريق مصافحًا فيكتور فرانكل، أجرّه من مرفقه وقدمُه مغلولةٌ في قضبانِ زنزانته النازية. أبحثُ عن المعنى معيّة جوردين باتيرسون نناضلُ ضلالاتِ ما بعدَ الحداثةِ، ونثقُ بوجودِ سرديةٍ لهذا العالَم. أبحثُ ورسالة ريلكه للشاعرِ الشّاب منحوتةٌ في صدري، شجاعٌ بما يكفِي "أمامَ ما هو أغربُ وأبعثُ على الدهشةِ، وأقلُّ قابليةً للإيضاحِ".  
هل تكونُ حياتي القادمةُ محاكاةً لحياةِ إدغار الان بو؛ تموتُ فيها امرأةٌ جميلةٌ، وتلهمُهُ غرابًا أسودَ! وكأنَّ الحدَثَ برمّتِهِ متعةٌ شعريةٌ رومانسيةٌ سوداء، أم أعيشُ حياتي لأشهدَ مأساويتَها على طريقةِ شوبنهاور! وكأنّ المعنَى كلَّهُ نكايةٌ بالمعنى.  

لو عِشْت ثلاثَ مرّات - سارة رسّل


تعقيبًا على «ملبورن» لويتلامس*

لو عشتُ ثلاثَ مرّاتٍ، سأتزوّجُكَ في اثنتين.
والثالثةُ؟ ربما أعيشُها..
في ستاربكس، جالسةً بمفردي، أكتب مذكراتٍ،
روايةً أو قصيدةً كهذه. لن أنجبِ أطفالًا،
على الأرجحِ، سأكتفي بشقةٍ صغيرةٍ تطِلُّ على النّهر،
بالكتبِ - الكثيرُ منَ الكتب، ووقتٌ للقراءة.
أصدقاءُ تضحكُ معهم، ورجلٌ أحيانًا،
لقضاءِ عطلةِ نهايةِ الأسبوعِ، وتذكّر ملمسَ البشَرةِ
الدافئ. سأكونُ أنحفَ في تلك الحياةِ، نباتيّةً،
أمارسُ اليوجا. سأذهبُ إلى الأفلامِ الفنيّةِ وأسواقِ المزارعين،
أشربُ المارتيني مرتديةً تنانيرَ الكَسْراتِ والمجوهراتِ الكبيرة.
سأقضي إجازةً على ساحلِ مين* وأرتدي قميصًا خفيفًا*
تركَهُ رجلٌ في عطلةِ نهايةِ الأسبوعِ، وتركَ رائحةَ عرَقِهِ
وكولونيا ما بعدَ الحلاقةِ المنعشةِ. سأسيرُ على الشّاطئِ
عندَ شروقِ الشمسِ، أبحثُ عن أصدافٍ حلزونيّةٍ،
وأدرسُ علاماتِ الماءِ على الرَّمل. وأتساءلُ أحيانًا
إنْ كنتُ سأجِدُك.
________________________
ترجمة د. شريف بقنه
سارة رَسّل Sarah Russell شاعرة وأكاديميّة أمريكية معاصرة، تحمل الدكتوراه في نظرية الاتصال من جامعة كولورادو. نشرت نصوصها في ريد ريفير رفيو وميسفيت مجازين وغيرها من الدوريات، حصلت على جائزة جودريدز وبويتري نوك ورُشّحت لجائزة بوشكارت.

* تعقيبًا على أغنية «ملبورن» للفرقة الاسترالية ويتلامس After “Melbourne” by the Whitlams والتي فيها مقطع يقول:
لو عشتُ ثلاثَ مرّاتٍ
سأتزوّجُكَ في اثنتينِ
سأحلُمُ بالوقتِ الذي نجلسُ فيه..
* مينMaine ولاية في شمال شرق الولايات المتحدة. تُعرف بساحلها الصخري الخشن، وجبالها المنخفضة، والغابات، والممرات المائية الخلابة.
* في الأصل قميص فلانيل flannel shirt، والفلانيل نوع من القماش الناعم المصنوع عادةً من الصوف أو القطن. بدأ تصنيعه قديمًا كقمصان رجالية.

"If I Had Three Lives" from I lost summer somewhere by Sarah Russell, 2019 by Kelsay Books

هل أحببْتها - شريف بُقْنه

G.Dawnay - Apparition
تنظرُ إليها
وينبثق السؤال في أناك
هل أحببتها؟ 
أم أحببت نفسك؟

هل أحببتها
وتعثرتَ في مطبّاتِ الرَّغبة.
أحببتها مجموعةَ أعضاءٍ
تصيبُك بارتباكٍ، 
منحوتةٌ رومانيّةٌ 
تنضحُ بالصِّحةِ والحياةِ
تبعثُ كلَّ شيءٍ جديدًا طريًّا،
تجعلُك تشكرُ اللهَ 
لأنَّهُ ابتكرَ الموتَ 
حتَّى لا يذبلَ الجمال.

هل أحببْت سحرَها؟
لأنَّها المسكنُ والمنتهى.
ترمّمُ الخساراتِ 
وتقوّضُ الخيباتِ 
التي مُنيت بها رُوحُك
رغمًا عنِ الألَمِ
والضَّحِكاتِ الكاذبةَ
والضجرِ والموت.
لأنّها بستانُ نخيلٍ
في أرضِكَ المحترقةِ،
فضاء لازوردي
لسمائك المهتوكة.

هل أحببْت ما تقولُه؟
ما تمثّلُه في هذا العالَم!.
كينونةٌ واعيةٌ 
وموقفٌ وجودي،
امرأةٌ تتعالَى على مالا تعرفُه
تفتَح قوسًا ولا تغلقُه
وتشغلُ حياتَها بالنّومِ 
والملذاتِ وقراءةِ
ملارميه ودوستوفيسكي.

هل أحببتها؟
لأنك أحببت نفسَك. 

تهويمات وجودية - شريف بُقْنه

السّماءُ
حريقٌ أزرقُ
كوّةُ الأسرارِ ومعملُ اللَّايقين،
خزانةُ المعادلاتِ والقرارتِ المقدّسة. 

الأرضُ
كرةٌ قذفَها الحريقُ وضلّتِ الطّريق، 
كلّما تأمّلتُ فيها كلما وجدتُ 
أنها بلا جدوى.

الحياة 
محاولاتٌ مستميتةٌ للقبضِ على السّعادةِ.
مسيرةُ المجهولِ، حلقةُ الفوضى
نخبُ الحظِّ والجذلِ والسلوَى.

الموت 
هزيمةٌ غيرُ منطقيةٍ. 
نبيٌّ صامت، نهرُ العدَمِ 
يجري بين جنبينا. 

البشر 
تاريخٌ موجزٌ للأخطاءِ.  
سلالةُ التائهين، عبيدُ المزاج
وحرّاسُ الفناءِ. 

الحبُّ
رغبةُ أنْ يكونَ الجمال.
كلَّ ما هو صباحيّ. 
موقدٌ ناعمٌ وزغَبٌ خشنٌ. 

الوجعُ
فنُّ الحياةِ وخطؤُها. 
شامةُ الحُسنِ على وجنةِ الأيَّامِ. 

الفتنةُ 
كمالٌ معيبٌ، 
خطأٌ صحيحٌ.

الغايةُ
أنْ نجدَ الغايةَ. 

الصمتُ 
 كانڤسٌ فارغ، 
 صوتُ الأسرارِ 
ومقبرةُ الكلامِ.

النّهايةُ 
لا نذهبُ إليها
تأتي إلينا متى ما شاءت.

أنت.. المرآةُ
براءةُ الكونِ وغموضُه
عنفوانُه وفوضويتُه.

الذهاب إلى السّرير في ليلةٍ ديسمبريّة - إيلين باس

عندما أنْسَلُّ تحت اللحاف وأطوي
جسدي بدفئك، أحسبُ أننا مثل صفحاتٍ
لرسالةِ حبٍّ كُتبت قبل ثلاثين عاما
وأنّ إلهً مُسنًّا ما زال يقرأها كل يوم
ثم يطويها مرةً أخرى في ظَرْفها.

______________________

ترجمة شريف بقنه
إلين باس Ellen Bass (١٩٤٧- ) شاعرة وكاتبة أمريكية معاصرة. حصلت على جائزة إليستون بوك للشعر، جائزة بابلو نيرودا، جائزة بوشكارت الأدبية ٤ مرات والعديد من الجوائز والتشريفات الأخرى.
"Getting Into Bed On A December Night” by Ellen Bass from The Sun, February